
#ملف_الهدف_الثقافي
حين يتحول الفن إلى شكل من أشكال البقاء، يصبح الإبداع أرقى أشكال المقاومة. ليست الثقافة فعل ترف، بل جوهر في معركة المصير، وحين يتعرى الواقع أمام عنف الاحتلال، لا يبقى سوى الجمال ليعيد رسم معناه. قال محمود درويش ذات لحظة إن (القصيدة التي لا تمشي في الشارع ليست جديرة أن تُولد)، لأن القصيدة في فلسطين ليست مجازًا لغويًا بل وثيقة وجود، وصيغة للبقاء في وجه المحو. إن فلسطين، عبر تاريخها الجريح، لم تكن ساحة صراع سياسي وحسب، بل مختبرًا حادًّا لعلاقة معقّدة بين القمع والمعنى، بين الفقد والخلق، بين الجرح والقصيدة.
في الحالة الفلسطينية، تحولت الإبداعية إلى بنية دفاعية. إن الكلمة، حين تُكتب في لحظة القهر، تتجاوز شكلها الجمالي لتصبح أداة معرفية تفكك القهر ذاته. لم يكن محمود درويش شاعرًا وطنيًا فقط، بل كان فيلسوف هوية يعيد بناء (الأنا) الفلسطينية بعيدًا عن سردية الضحية وحدها. لقد استعاد الفلسطيني في ذاته طاقة الفعل، لا من خلال البندقية فحسب، بل من خلال الجملة الشعرية التي تحمل قدرة على دحض النفي الوجودي الذي تمارسه الصهيونية. و(بطاقة الهوية) ليست احتجاجًا، بل بيان فلسفي يفكك استعمار اللغة، ويعيد تعريف الذات.
في المقابل، يتجلى سميح القاسم كمثال على الصياغة الشعرية للغضب النبيل. تشكّل قصائده مفارقة وجودية: شاعر مهدّد بالموت يكتب عن الخلود. هنا الشعر ليس تصويرًا، بل اقتحام للممكن. إن مقاومة الاحتلال لا تتم فقط في الميدان، بل في اللغة؛ في قدرة الشاعر على تحويل المأساة إلى شكل من أشكال التحدي المعرفي. فالشعر هنا ليس استجابة وجدانية، بل صيغة من صِيَغ الاستبصار التاريخي.
أما الرواية، فهي الشكل السردي لزمن المأساة. لم يكن غسان كنفاني راوٍ فقط، بل مفكّر في بنية الهزيمة. (رجال في الشمس) ليست حكاية، بل بنية فلسفية للسؤال: لماذا لم يدقوا الجدران؟ الرواية هنا تتجاوز الشخصية إلى البنية. شخصية (أبو الخيزران) ليست فردًا، بل استعارة سياسية للخذلان، للسلبية، للتواطؤ الصامت. أما إميل حبيبي، فذهب إلى منطقة أبعد، إذ استخدم السخرية كآلية تقويض. في (الوقائع الغريبة) تسقط الثنائية الساذجة بين الواقعي والعبثي. فالأدب، في لحظة الاحتلال، يصبح سلاحًا فوق المعقول، لأنّ ما يُرتكب في الواقع يفوق الخيال.
الفن التشكيلي الفلسطيني، عبر أعمال إسماعيل شموط، يكشف عن صراع الرؤية لا الشكل فقط. اللوحة ليست تمثيلًا للنكبة، بل إعادة تشكيل لذاكرة الصدمة. هذه الذاكرة لا تُستعاد كوثيقة تاريخية، بل كقوة تحفيزية تنتج المعنى. كذلك الأغنية الفلسطينية، من خلال أصوات مارسيل خليفة وأحمد قعبور وغيرهم، لم تكن فقط مرآة للحنين، بل طاقة استثنائية لنقل النكبة من مستوى الخاص إلى مستوى الكوني، من صوت الضحية إلى لحن النبوءة. فالأغنية هنا تقاوم النسيان، وتخلق أفقًا للممكن.
في المقابل، ومع صعود موجات التطبيع الثقافي، يتجلى البُعد الأخطر في معركة فلسطين: معركة الوعي. حين تُستضاف فرق فنية صهيونية في مدن عربية، وحين تُسوَّق الرواية الصهيونية تحت شعار (التعايش)، فإن الثقافة تفقد وظيفتها النقدية وتتحول إلى أداة تعويم للظلم. هذا هو جوهر الخيانة الثقافية: لا في الموقف المعلن فقط، بل في إعادة تشكيل الوعي الجمعي ليتصالح مع القهر. وهنا يصبح المثقف الذي يصمت متواطئًا بقدر ما يُطبّع.
ولعلّ ما فهمه حزب البعث هو مركزية الثقافة في معركة التحرير. فالاستقلال لا يبدأ بالبندقية، بل بتحرير العقل من الاستلاب الرمزي. وكما قال الأستاذ ميشيل عفلق، لا يمكن للوحدة العربية أن تنجح إن لم تكن مسبوقة بوحدة في الفهم، في الهوية، في الرؤية. الثقافة هنا لا تُزاحم السياسة، بل تعيد تأسيسها على قاعدة المعنى.
وإذا كانت الثقافة أداة مقاومة، فهي لا بد أن تُنظّم ضمن مشروع بديل. مشروع لا يعتمد على الانفعال، بل على التراكم. من توثيق جرائم الاحتلال بأدوات الفن، إلى إدماج الأدب الفلسطيني في مناهجنا المدرسية، مرورًا بخلق حواضن مؤسسية لحماية الفن الملتزم، علينا ألا نكتفي بردود الفعل، بل نبني ذاكرة هجومية لا دفاعية. يجب أن يصبح الفنان العربي فاعلا، لا مفعولا به، منتجًا للرموز لا مكرّسًا لها. كما فعل ناجي العلي، الذي اختصر أجيالا من الغضب والسخرية والفقد، في طفل يدير ظهره للعالم.. ليقول كل شيء.
فهل تستطيع القصيدة أن تحرر أرضًا؟ ربما لا. لكنها تحرر الإنسان الذي سيحرر الأرض. وهل ترسم اللوحة طريق العودة؟ لا، لكنها تمنعنا من نسيان الطريق. الثقافة لا تغير الجغرافيا، لكنها تعيد تشكيل الإدراك الذي يصنع الجغرافيا. وإذا كانت الحرب على فلسطين تُمارس عبر التاريخ والسلاح والاقتصاد، فإن الدفاع عنها يجب أن يُمارس عبر كل وسائط المعنى، من المدرسة إلى المسرح، من الأغنية إلى المقالة، من الحكاية إلى الحلم.
فلسطين ليست موضوعًا يُتناول، بل سؤالًا يُعاد طرحه مع كل جيل. والثقافة ليست ترفًا يتبع السياسة، بل الحقل الأعمق الذي تُخاض فيه معركة الكرامة. وإذا كان الطغاة يخافون الأغنية أكثر من الرصاصة، فلأن الأغنية، حين تُغنى من قلب مكلوم، تزرع في الأجيال بذرة رفض لا تموت.
إن القصيدة، حين تُكتب في زمن الاحتلال، لا تكون مجرد نص.. بل وطن صغير يُقاوم النفي، ويراهن على المعنى.
Leave a Reply