
أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
مقدمة السلسلة: لم يعد الحديث عن البيئة ترفًا ثقافيًا أو مبحثًا جانبياً في هوامش التنمية، بل أصبح في قلب معركة الإنسان من أجل البقاء، وفي صميم معركة الأمة العربية من أجل التحرر والسيادة. فالاقتصاد العالمي، حين جعل الطبيعة مجرد مخزن مفتوح للموارد، أنتج منظومة من الاستنزاف والاختناق البيئي، وألقى بآثارها على الشعوب المستضعفة، التي تتحمل نتائج التلوث دون أن تكون شريكة في مكاسبه.
وإذا كانت رسالة حزب البعث قد جسّدت ثلاثية التحرر، الوحدة، العدالة الاجتماعية، فإن من مقتضياتها اليوم أن يُضاف إليها بعدٌ رابع متلازم، الانسجام مع الطبيعة وحماية شروط الحياة. فالأمة التي تُستنزف أرضها وتُهدر مواردها، أمة مهددة في كرامتها كما هي مهددة في حريتها.
تأتي هذه السلسلة لتفتح أفقًا جديدًا أمام القارئ العربي، وتعيد تعريف الاقتصاد الأخضر لا كموضة عابرة أو توصية أممية، بل كخيار استراتيجي وقومي، يضع الإنسان في قلب العملية التنموية، ويجعل من البيئة حليفًا في مشروع النهضة لا ضحية له.
المقال الأول:
الاقتصاد الأخضر: فلسفة الحياة في مواجهة اقتصاد الفناء
يولد الاقتصاد الأخضر من قلب التناقضات، من صرخة الطبيعة وقد أُنهكت بالغابات المحترقة والمياه المسمومة والهواء المثقل بغبار الصناعة، ومن صرخة الإنسان وقد تحوّل إلى ترس صغير في ماكينة السوق الرأسمالية. لكن السؤال الأعمق ليس كيف نُصلح هذا الخراب، بل كيف نعيد صياغة معنى الاقتصاد ذاته؟
فالاقتصاد في جوهره ليس حسابات أرقام أو توازنات ميزانية، بل هو تعبير عن علاقة الإنسان بالعالم، بالأرض التي يعيش عليها، بالزمن الذي يورّثه لأبنائه، وبالمجتمع الذي يسعى إلى بنائه. من هنا، يطرح الاقتصاد الأخضر نفسه لا كتقنية لإدارة الأزمات، بل كرؤية فلسفية تجعل الإنسان والطبيعة طرفين في علاقة تكامل، لا خصمين في معركة استنزاف.
الاقتصاد الأخضر هو نمط تنموي جديد يضع البيئة والإنسان في قلب المعادلة الاقتصادية، بحيث تُقاس الجدوى لا فقط بمؤشرات الناتج المحلي أو معدل النمو، بل أيضًا ببصمة الكربون، وكفاءة استخدام الموارد، وعدالة توزيع المنافع بين الأجيال. وقد عرّفه برنامج الأمم المتحدة للبيئة بأنه (الاقتصاد الذي يحقق النمو ويحسن سبل العيش مع الحد من المخاطر البيئية والندرة الإيكولوجية)، أي أنه اقتصاد يوازن بين الإنتاج والاستهلاك من جهة، وصيانة البيئة وتجديد مواردها من جهة أخرى.
فهو اقتصاد يختلف جوهريًا عن النموذج النيوليبرالي الذي يختزل النجاح في تعظيم الأرباح، بينما يترك فاتورة الانبعاثات والتلوث للأجيال المقبلة. الاقتصاد الأخضر يطرح بديلًا يقوم على مبدأ (الكفاءة البيئية + العدالة الاجتماعية + الاستدامة الاقتصادية). وهذا ما يجعله ليس مجرد سياسات جزئية كتوسيع الطاقة المتجددة أو إعادة التدوير، بل تحولًا بنيويًا في طريقة التفكير في التنمية، من اقتصاد يستهلك الطبيعة حتى الفناء، إلى اقتصاد يعترف بكون الطبيعة شريكًا منتجًا يجب احترامه وصيانته.
إن الرأسمالية الحديثة، وقد خلقت ثروات طائلة، لم تفعل سوى أن تراكم الدمار البيئي والاجتماعي: دول غنية تزداد غنىً، ودول فقيرة تُدفع إلى حافة التصحر والجوع، بينما الأجيال القادمة تُورث خرابًا بيئيًا يهدد حياتها. ولهذا، فإن الأخضر ليس لونًا للترف، بل رمز للمقاومة، مقاومة التبعية التي تجعل بلداننا أسواقًا للسلع الملوثة ومكبًا للنفايات، ومقاومة لسياسات تُقايض سيادتنا البيئية بفتات من المعونات أو الديون.
الاقتصاد الأخضر، في هذا السياق، هو اقتصاد العدالة المستقبلية، لأنه يتجاوز عدالة التوزيع في الحاضر ليضمن حق الأجيال القادمة في أن تعيش بكرامة. إن إدماج مفهوم الاقتصاد الأخضر في مشروع النهوض القومي العربي ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية. فالعروبة ليست مجرد وحدة لغوية أو تاريخية، بل هي أيضًا وحدة بيئية – اقتصادية؛ إذ يشترك وطننا العربي في شمس واحدة، ورياح واحدة، وأنهار مترابطة، ومجالات زراعية ومائية تتكامل عبر الحدود. من هنا يصبح الاقتصاد الأخضر تجسيدًا عمليًا لفكرة الوحدة، وذلك بربط مشاريع الطاقة الشمسية في الجزيرة العربية باحتياجات المغرب العربي، وربط ثروات المياه في وادي النيل بالأمن الغذائي المشرقي، وتحويل الصحراء من رمز للتصحر إلى مجال رحب للابتكار الزراعي والطاقي.
بهذا المعنى، الاقتصاد الأخضر ليس فقط خيارًا تنمويًا، بل هو ركيزة من ركائز المشروع النهضوي العربي، يحررنا من التبعية لأسواق النفط وتقلباتها، ويعيد ربط العدالة الاجتماعية بالسيادة البيئية، ويجعل من البيئة جبهة مقاومة بقدر ما هي مصدر حياة. وهو اقتصاد التحرر القومي، لأنه يعيدنا إلى مواردنا الطبيعية الأصيلة، كالشمس التي تشرق على صحارينا، والرياح التي تعبر سهولنا، والمياه التي تجري في أنهارنا. كلها موارد متجددة إذا استُثمرت بوعي قومي، فإنها تمنحنا استقلالًا عن دوائر الطاقة الأحفورية التي ربطتنا بهيمنة الغرب.
لكن إدخال مفهوم الاقتصاد الأخضر في الفكر القومي لا يُختزل في الدعوة إلى الطاقات النظيفة أو الزراعة المستدامة فحسب، بل يتجذر في مشروع نهضوي شامل. فالقضية هنا ليست بيئية فقط، بل وجودية، في إما أن نعيش في انسجام مع شروط الطبيعة، أو نندفع مع النظام العالمي إلى هاوية الانقراض.
وهنا يتضح البعد الفلسفي، فالاقتصاد الأخضر ليس مجرد خيار تنموي، بل هو دفاع عن معنى الحياة ذاته، وصياغة جديدة لوحدة الإنسان والطبيعة في أفق الحرية والكرامة والرسالة الخالدة.
Leave a Reply