الاشتراكية الشعورية: نحو اقتصاد يرتكز على الثقة والكرامة النفسية

بقلم: طارق عبد اللطيف ابو عكرمة

المقدمة: بين قسوة السوق وحنين الإنسان
“ليس الفقر هو العوز فقط، بل هو حين تُجرَّد من كرامتك في سبيل لقمة العيش.” – بهذا المعنى العميق، تتجاوز الاشتراكية الشعورية (Sentimental Socialism) محض السياسات الاقتصادية نحو إعادة تأسيس العلاقة بين الإنسان والاقتصاد على قاعدة وجدانية وفلسفية أكثر اتساعاً.
في عصر تفكك الروابط الاجتماعية وسيطرة الاقتصاد النيوليبرالي، برزت الحاجة لنموذج جديد يوازن بين العدالة الاجتماعية والتوازن النفسي، بين الحساب والعاطفة، بين البنية والمؤسِّس الوجداني. فالاقتصاد الحديث كثيراً ما حوّل البشر إلى وحدات إنتاج/استهلاك، وغابت فيه “الثقة” كقيمة إنسانية، و”الكرامة” كحاجة روحية. ومن هنا ينبثق مفهوم الاشتراكية الشعورية كطرح فلسفي وسياسي وأخلاقي يروم إعادة الاعتبار للعاطفة كمقوم في بناء الاقتصاد.

المبحث الأول: تأصيل المفهوم – من الاشتراكية الكلاسيكية إلى الاشتراكية الشعورية

تاريخياً، تأسست الاشتراكية الكلاسيكية كردّ فعل على تجاوزات الرأسمالية الصناعية، حيث ارتكزت على المساواة في الملكية، وإعادة توزيع الثروة، وتمكين الطبقة العاملة. غير أن هذه الاشتراكية – برغم عدالتها الموضوعية – فشلت أحياناً في إدماج البُعد الشعوري – النفسي في تحليلها للإنسان. فالفرد في الماركسية، كما لاحظ إريك فروم، هو فاعل طبقي قبل أن يكون ذاتاً معقدة مفعمة بالأمل، والشك، والضعف، والكرامة.
أما الاشتراكية الشعورية فهي لا تكتفي بتوفير الحاجات المادية، بل تسعى لصون كرامة الإنسان في سياق العطاء والإنتاج والضمان الاجتماعي. هي ترى أن العدالة لا تكون تامة إذا لم تُصن معها الذات من القهر الرمزي، من “إذلال الطوابير”، ومن تحويل الدعم الاجتماعي إلى شكل من أشكال الاستعلاء أو الفتات.

المبحث الثاني: الاشتراكية الشعورية كاقتصاد أخلاقي

الاشتراكية الشعورية تتأسس على خمس قيم جوهرية:
1. الثقة المتبادلة: لا يقوم اقتصاد سليم على الشك الدائم، أو على افتراض أن الإنسان أناني بطبعه، بل على بناء ثقافة الثقة في التوزيع، وفي نوايا الدولة، وفي عدالة السياسات.
2. الكرامة النفسية: دعم الإنسان ليس إحساناً، بل استحقاقاً، ولا يجوز أن يشعر الفرد بالدونية أو النقص حين يتلقى خدمة اجتماعية.
3. التضامن الوجداني: ما يحرك سياسات هذه الاشتراكية ليس فقط العدل الرقمي، بل شعور عميق بالانتماء للمجتمع، وبوجوب ألا يُترك أحد خلف الركب.
4. المسؤولية الجماعية: الإنتاج لا يجب أن يكون محفزاً فردياً فقط، بل تعبيراً عن التزام بالمجموعة، وبمعنى أوسع للحياة المشتركة.
5. إعادة تعريف الندرة والوفرة: الاقتصاد الشعوري لا يركز فقط على وفرة السلع، بل على وفرة العلاقات، والثقة، والمعنى.

المبحث الثالث: من السياسة إلى الوجدان – التحولات المطلوبة

لترجمة الاشتراكية الشعورية إلى واقع، لا بد من تحولين رئيسيين:
أولاً: تحوُّل في تصميم السياسات: بحيث تصبح نظم الدعم الاجتماعي أكثر احتراماً للذات، أكثر بساطة، وأقل بيروقراطية. يجب أن يتلقى الإنسان حقه دون أن يُمتحن في حاجته، أو يُعرّى نفسياً.
ثانياً: تحوُّل في الخطاب السياسي: لا يكفي أن نخاطب الجماهير بالأرقام، بل أن نتحدث عن الحنان، عن الأمان النفسي، عن الحق في الهدوء، لا فقط في الخبز.
وهنا تأتي أهمية الثقافة السياسية – فهل نمتلك لغة سياسية تعبّر عن الألم بلا شعوبية؟ عن الحقوق دون فظاظة؟ عن العدالة دون تحريض طبقي أجوف؟

المبحث الرابع: الاشتراكية الشعورية في زمن الأزمات – لماذا الآن؟
في خضم الجوائح، والحروب، والركود الاقتصادي العالمي، بات واضحاً أن الاقتصادات التي لا تراعي الأبعاد النفسية تُنتج شعوباً ممزقة، ومجتمعات غاضبة. فالأزمات لا تُقاس فقط بالمؤشرات المالية، بل بأثرها على الأمل، على العلاقات، على الإحساس بالجدوى.
الاشتراكية الشعورية هي دعوة لاستباق الانفجار، ببناء اقتصاد إنساني، يحتضن لا يقمع، يُحاور لا يعاقب، يضمد لا يحاكم. وهي ليست نقيضاً للرأسمالية فحسب، بل رداً على تقنيتها الجافة، وعلى ادعائها أن الإنسان مجرد حساب تكلفة ومنفعة.

الخاتمة: من حلم السياسة إلى رقة الإنسان
إن الاشتراكية الشعورية، كفلسفة وكسياسة، تُعيد صياغة سؤال التنمية: من النمو إلى النمو الإنساني، من التشغيل إلى التمكين، من الإعالة إلى الاعتراف. وهي لا تدّعي الحل النهائي، لكنها تُقدّم اقتراحاً لاقتصاد جديد، يعيد للناس شعورهم بأنهم محترمون، حتى وهم في أضعف حالاتهم.
ولعل أنبل السياسات، كما قال نلسون مانديلا، هي التي “تعطي الناس الإحساس بأنهم ليسوا عبئاً، بل قيمة مضافة لبلادهم”.
وفي زمان يعلو فيه صوت القسوة والسرعة، تكون الاشتراكية الشعورية دعوة للتأني، للتأمل، ولإعادة بناء الدولة – لا فقط على ما تجنيه من ضرائب، بل على ما تمنحه من ثقة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.