الاقتصاد غير المرئي: رأس المال النفسي المهدر في السودان

بقلم: طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

#ملف_الهدف_الاقتصادي

في اقتصاد يُقاس بالناتج المحلي ومعدلات التضخم ونسب البطالة، ثمة مكوّن خفيّ لا يظهر في الميزانيات ولا يُدرج ضمن الموازنات، لكنه يحدّد بعمق مسار التنمية ونوع الحياة: رأس المال النفسي. ذلك المخزون اللامرئي من الطاقات النفسية، من الأمل والدافعية والانتماء والرضا والإبداع، الذي إذا ما استُنزف، تحوّل المجتمع من قوة إنتاج إلى ساحة احتراق داخلي. والسودان، في ظل الحرب الراهنة، يُعد نموذجًا حيًا لهدر هذا النوع من رأس المال بدرجات مفجعة.

رأس المال النفسي هو ما يجعل الإنسان لا يكتفي بالبقاء، بل يطمح؛ لا يعمل فقط من أجل البقاء، بل من أجل الإنجاز. إنه منظومة من الكفاءات النفسية التي تشمل الثقة بالذات، والأمل، والتفاؤل، والمرونة، والقدرة على الاستمرار. وقد أظهرت الدراسات الحديثة في الاقتصاد السلوكي والإيجابي أن هذه السمات النفسية ليست رفاهية شعورية، بل أصول إنتاجية ذات تأثير مباشر على الأداء الفردي والجماعي، وعلى جودة المؤسسات، واستدامة النمو.

في السودان، لا يفتقر الناس إلى الطموح ولا إلى المهارات. إنهم، في غالبهم، يملكون من الكفاءة والخيال ما يكفي لنهضة أمة. لكن ما ينقصهم، أو ما يُنتزع منهم يوميًا، هو رأس المال النفسي. فمن ذا الذي يستطيع أن يحلم في ظل النزوح؟ من يستطيع أن يخطط في ظل الـ لايقين؟ من يزرع في أرض قد يُجبر على مغادرتها؟ كيف نبني اقتصادًا ونصف سكان المدن الكبرى هائمون بلا مأوى أو أمل أو ضمان؟

تتجلّى ملامح الهدر النفسي في تفاصيل الحياة اليومية: في الطوابير، في فقدان الثقة في المؤسسات، في انعدام التوقع الإيجابي، في تصاعد مشاعر الاغتراب داخل الوطن، في تعميم الإحساس بالعجز الجماعي. وقد أكدت تقارير التنمية البشرية أن المجتمعات التي تُصاب بـ”الإنهاك النفسي الجماعي” تشهد تدنياً في الانتظام الاقتصادي، وتدهوراً في الإنتاجية، وعزوفاً عن المبادرة الفردية والجماعية. ويحدث ذلك بصمت، خارج تقارير وزارة المالية، لكنه يُفقر الدولة أكثر مما تفعل الديون.

يخطئ صانعو القرار حين يختزلون الأزمة في مشروعات البنية التحتية، متناسين أن البنية التحتية للنمو تبدأ في داخل الإنسان. وما لم يُعاد ترميم رأس المال النفسي للمواطن السوداني، فإن أي إصلاح اقتصادي سيظل سطحيًا، لا يلامس عمق الأزمة، ولن يجد استجابة فاعلة من مجتمع يشعر بالغُربة داخل بلاده، ويعيش تحت ضغط الصدمة الممتدة لما بعد الحرب.

في الدول التي تجاوزت صدمات الحروب أو الكوارث، جُعلت الصحة النفسية مكوّناً مركزياً في السياسات الاقتصادية. لا لأن الدول تحوّلت إلى جمعيات خيرية، بل لأنهم أدركوا أن الثقة والأمل والتعافي النفسي تؤدي إلى تحسين الأداء في العمل، وتقلّل من كُلف الرعاية الصحية، وتزيد من قدرة المجتمعات على الإنتاج والادخار والاستثمار.

في السياق السوداني، يزداد الأمر تعقيدًا بسبب عدم الاعتراف الرسمي بالحالة النفسية كعامل اقتصادي. فالسياسات تُصاغ على أساس ما هو قابل للقياس المباشر، متجاهلة أن ما لا يُقاس لا يعني أنه غير موجود. والحقيقة أن الخسارة النفسية تسبق أحيانًا الخسارة المادية، بل هي من يرسّخها.

إن أولى خطوات الإصلاح الحقيقي تبدأ بإدراك أن كل شاب فقد شغفه، وكل معلمة اضطُرت لترك مهنتها، وكل عامل فقد ثقته في جدوى جهده، هو رأس مال مهدر، وفاقد اقتصادي باهظ الكلفة. إن الاستثمار في الدعم النفسي، وفي مؤسسات تعيد بناء الثقة والأمان والانتماء، ليس ترفًا، بل ضرورة تنموية من الدرجة الأولى.

آن الأوان أن نعيد النظر في أدوات التحليل الاقتصادي لنضع الإنسان في مركز المعادلة، لا على هامشها. وأن يُنظر إلى رأس المال النفسي لا بوصفه مقياسًا شعوريًا، بل كأصل تنموي يجب صيانته، وتمويله، وإدارته كأهم ثروة تملكها الأمة.

فالأوطان لا تنهار من نقص الموارد، بل من فائض اليأس. وإذا كانت الحرب قد أفرغت الخزائن، فإنها أفرغت قبلها النفوس من الأمل. والمهمة الكبرى ليست فقط في إعادة الإعمار، بل في إعادة الاعتبار لما هو غير مرئي، لكنه جوهري: الإنسان في قوته الداخلية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.