هدنة نيفاشا وتجدد الحرب .. معركة البترول

هدنة نيفاشا وتجدد الحرب .. معركة البترول

علي حمدان

بعد سبعة أشهر من إنفصال الجنوب لازالت بلادنا تتحسس طريقها نحو المستقبل وسط حقول ألغام الأزمة الوطنية الشاملة دون أن تكون لدى النظام الإستبدادي خارطة طريق لحل قضاياها، بل يتمسك بإصرار بخياراته الأيديولوجية والسياسية والإقتصادية التي كانت سبباً في نشؤها وأستمراره على التفرد بالتقرير في مصائر البلاد، ولازال يتعامل بردود الأفعال تجاه تداعيات جريمة الإنفصال وتحدياتها وهزاتها الإرتدادية شاهراً سيف الحلول الأمنية والعسكرية في مواجهة قضايا التدامج الوطني والتفاوت الإقتصادي والإجتماعي ، مما أدى إلى اشعال الحروب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وأسهم بالمحصلة في بروز مخاوف عملية خطيرة لمزيد من التقسيم لبلادنا ، خاصة وأنها وقد بدأت تغرق في دوامة من النزاعات مع دولة الجنوب الوليدة حول القضايا المعلقة المتبقية من اتفاق نيفاشا، بجانب الترتيبات الخاصة لمرحلة ما بعد الإنفصال، والتي ظلت تلهب الخلاف بين البلدين وتضعهما على حافة المواجهة العسكرية . وقد فشلت حتى الآن كل جولات التفاوض بين الدولتين في إيجاد تسوية متفق عليها لتلك القضايا وعلى رأسها قضية عائدات البترول ورسوم تصديره ، بجانب النزاع حول أبيي والحدود المشتركة بين البلدين. تمثل التطورات المتسارعة للنزاع على البترول من التهديد بوقف تصديره إلى التلويح بوقف انتاجه فشلاً أكيداً للمفاوضات المزمنة بين الجانبين وخروجاً على إطارها، ولايتعلق الأمر بمجرد فشل الوصول لإتفاق عبر التفاوض ، وإنما يتعداه إلى سعي كل طرف للبحث عن حلول خارج إطار التفاوض ويقدم على فرض حلول إنفرادية ، وتمثل الخطوة الجنوبية الأخيرة تصعيداً في هذا الإتجاه الذي يمكن تسميته بحرب البترول التي تمثل إنحرافاً عن الطريق السليم للوصول إلى حلول تلبي مصالح البلدين .

على خلفية ما أحاط بتنفيذ بعض البنود (الملتبسة) في اتفاقية نيفاشا من صعوبات بجانب إرث العدائيات الذي تأسس على الإنفصال ، أدت وستؤدي هذه (الإلتباسات) إلى صراعات متصلة تديم حالة الإحتقان وتشكل وقوداً لإشعال مزيد من الحروب بين الجانبين ( البترول، أبيي، الحدود بين الشمال والجنوب، الأوضاع المشتعلة في جنوب كردفان والنيل الأزرق)، بجانب أن نهج نيفاشا أدى لإستثارة العنف والعصبيات القبلية والجهوية وإلى إضعاف روح الوحدة الوطنية ، فاسحاً المجال أمام تفتيت البلاد وتبخرت بسببه أحلام السلام الشامل والتحول الديمقراطي . والمفارقة الجوهرية في اتفاق نيفاشا تكمن في رهانها على تحول قادة الحرب إلى رسل سلام، ودعاة الإنفصال في الجانبين إلى دعامات لوحدة السودان ، وأعداء الحرية والديمقراطية إلى صناع للتحول الديمقراطي والتعددية السياسية . فكانت الحصيلة العملية في ظل تطبيقات نيفاشا ونهجها السائد، مزيداً من تردي الأوضاع السياسية والأمنية والإقتصادية، وفي هذا السياق يمكن النظر إلى أتفاق نيفاشا كخدعة كبرى قايضت وحدة السودان بسلام مزعوم بعد أن تأكد فشل النظام بتحويل وعود السلام إلى واقع ملموس في حياة الناس الذين عانوا ويلات الحروب وتداعياتها إلى تنمية شاملة وخدمات تسهم في ترقية أوضاعهم المعيشية، وصيانة الكرامة بكفالة الحريات والحقوق الأساسية . فإلى جانب هذا الإرث من العداء الذي تأسس عليه إنفصال الجنوب ، فإن الروابط القريبة للجنوب بالأوضاع في المناطق المتأزمة والمشتعلة، خاصة ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وعلى خلفية (الملتبس) فيما يسمى بالمشورة الشعبية، وإنعكاس نهج المعالجات الأمنية لمواجهة إفرازات التفاوت الإقتصادي وقضايا التدامج الوطني في بلد متعدد الثقافات واالمكونات القومية التي ينبغي النظر إليها من خلال مواجهة جذورها وأسبابها الأساسية في إطار حل وطني يضع الجزء في مكانه الطبيعي من الوطن. كل ذلك يقدح في مصداقية السلام والتحول الديمقراطي الذي بشرت به اتفاقية نيفاشا ويؤكد بالوقائع الملموسة أن ما حققته نيفاشا في ضوء الأوضاع السائدة والتعقيدات الماثلة ، إنما هو هدنة في حرب بين مقاتلين أمتدت لستة أعوام يجري استئنافها الآن في ميادين ومسارح جديدة وبوسائل وأدوات أكثر فتكاً وأشد خطراً وإيلاماً.

إن التحديات التي تواجه بلادنا بعد الإنفصال وتداعياته ، تأكد أن معالجتها لاتكمن في الحلول الأمنية والعسكرية، أو السياسية الزائفة التي تعمل على إعادة إنتاج النظام بترقيعه وتوسيع قاعدته بذات التوجهات التي كانت سبباً في التفريط في وحدة السودان، وإشعال الحروب واستمرارها في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وزيادة التوتر والإحتقان في الشمال والوسط والشرق ، والإمعان في المضي على طريق سياسات التحرير الإقتصادي الرأسمالية، ونهج الخصخصة والفساد الممنهج الذي أهدر الموارد والثروات وزاد من أفقار شعبنا وتجويعه وإهدار كرامته، فضلاً عن أن هذه التحديات لايحلها ويعالجها النهج الذي أحل المراهنة على دور الأجنبي بديلاً للإرادة الوطنية في حل قضايانا الوطنية ، والذي انتهى إلى اختراق بلادنا وقضاياها بالنفوذ الإستخباري والعسكري الأمريكي ، والذي أفضى إلى نتائج سياسية وعسكرية ذات مساس كبير بحاضر السودان ومستقبله بدمجه في شبكة المصالح الأمريكية في المنطقة، بأعادة ترتيب خريطته السياسية وهيكلته في إطار ما يعرف بسايكس بيكو الأمريكية القائمة على تعميم التجزئة والتفتيت ( نهج نيفاشا) .

إن هذه المواجهة تعكس حالة العداء المتجذرة في علاقات السلطة الحاكمة في البلدين ( الشمال والجنوب) والإفتقار المشترك لحسن النوايا بين الطرفين والتناففس السلبي القائم على إلحاق الأذى بالغير، ستقود حتماً الطرفين إلى مواجهات متواترة عبر كل القضايا العالقة التي تفرض نفسها في مسار العلاقات بين البلدين ، لذلك تبدو الحاجة ماسة إلى إيجاد معالجة تفرض على الطرفين التحرر من عقد وترسبات ماضي العلاقة والتخلص من روح الإنتقام، وتحجيم الإتجاهات الإنفصالية المتطرفة في أوساطهما التي تعمل على تغذية وتعميق قطيعة شاملة بين البلدين، سواء بحسابات داخلية أو خارجية ، والتوجه بدلاً من ذلك إلى تبني استراتيجية تديم علاقات جوار متينة بدلالة المصالح الحيوية المشتركة بين الشمال والجنوب، وحتمية إعتماد كل منهما على الآخر. وإن السلام الشامل والعادل الذي يتطلع إليه شعبنا لازال هدفاً عزيزاً لن يأتي إلا بمعالجة جذرية لأسباب الحروب والنزاعات والسياسات التي أنتجت الأزمة الشاملة ، مما يعزز الحاجة الملحة للتغيير الجذري الشامل الذي يتكافأ مع التحديات الراهنة ، ويفتح الطريق أمام مشاركة واسعة من قبل كل القوى الحية في مناخ من الحرية والمشاركة الديمقراطية لتقرير مسار ومستقبل أفضل يصون الوحدة ويعزز الحريات ويبني التقدم ويحافظ على الإستقلال والسيادة الوطنية.