مشاركة المرأة السودانية في صناعة السلام ودعمها لوقف الحرب

بقلم: د. هادية يوسف عبد الرحمن

تمهيد: حضور المرأة عبر العصور

على مر الحقب التاريخية والعصور الغابرة، كان دور المرأة السودانية حاضرًا وفاعلًا، متجسدًا في قيادتها للمجتمع. ويتجلى ذلك في نماذج مثل الملكات أماني ريناس، شيختو، والميارم في دارفور، حيث حظيت المرأة السودانية آنذاك باهتمام بالغ تقديرًا لتضحياتها الجسام.

انخرطت المرأة السودانية في العمل العام منذ أمد بعيد، ويعود ذلك إلى بدايات القرن العشرين، ففي عام 1924، انخرطت رائدات التعليم في العمل بالمدارس الأولية. ومع تزايد الفرص، دخلن سوق العمل في مجالات التدريس والتمريض والطب وبعض الوظائف الحكومية. وشهدت هذه الفترة أيضًا الظهور الأول للجمعيات النسوية المنظمة.

بيد أن نشأة المرأة في العمل السياسي المباشر تعود إلى بدايات تكوين الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار في أربعينيات القرن الماضي.

المرأة والثورات في السودان

في عام 1964، وبعد ثورة أكتوبر المجيدة، نالت المرأة السودانية أهمية بالغة في المجتمع السوداني بكل أطيافه. وبالطبع، حصلت على مقاعد في البرلمان ممثلةً لعدد من الدوائر، وذلك بعد أن أطلت بقوة واقتحمت الساحة السياسية، وهتفت مع الثوار ضد الحكم العسكري الدكتاتوري الذي قاده الفريق إبراهيم عبود، والذي استولى على السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1958. وكان للحركة النسوية السودانية دور بارز في نجاح ثورات السودان الأولى.

وفي أبريل من العام 1985، اندلعت الثورة الشعبية الثانية ضد نظام مايو الدكتاتوري بقيادة جعفر نميري، والذي أتى أيضًا بانقلاب عسكري في العام 1969. وقتها، كانت النساء قد اكتسبن مزيدًا من الحقوق، وعملن كوزيرات ومحاميات وطبيبات ومعلمات.

وفي ثورة أبريل، تزايدت مشاركة النساء في الأحزاب السياسية بصورة ملحوظة، وكن عضوات نشطات يشار إليهن بالبنان، حيث ساهمن بفاعلية في الثورة وإسقاط النظام الدكتاتوري المتسلط. فطبيعة المرأة لا تحب التسلط ولا المعاملة القاسية، ولذلك نجد أدوارهن بارزة وواضحة في إسقاط كافة الأنظمة الدكتاتورية.

أوضاع النساء خلال مرحلة النظام البائد

مارس النظام المخلوع طوال فترة حكمه إذلالًا ممنهجًا ضد النساء والفتيات السودانيات. فبعد ست سنوات من انقلاب الجبهة الإسلامية، سنت ولاية الخرطوم ما يسمى “قانون النظام العام”، استنادًا إلى نص المادة (152/1) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991. وتبعتها بقية ولايات السودان مستنسخة ذات المضمون والمواد. ولتنفيذ هذا القانون الجديد، أُلفت محاكم وفُرق شرطية خاصة تقوم بمطاردة النساء في الشوارع والأماكن العامة، وفحص أزيائهن إذا ما كانت مطابقة للشرع أم مخالفة، وفق تقديرات شخصية لأفراد تلك الفرق، تخضع لأمزجتهم الخاصة، ما أسفر عن كثير من التجاوزات والانتهاكات، والاستغلال، والابتزاز للنساء.

ولدت سياسات العنف المفرط التي انتهجها نظام البشير تجاه النساء السودانيات إحساسًا قويًا بالغبن، وشعورًا متناميًا بالظلم ظل يتشكل يومًا بعد يوم. وتنامى هذا الشعور مع كل فيديو استعراضي لسلطات إنفاذ القانون وهي تقوم بتطبيق عقوبة الجلد على إحدى النساء بوحشية على الملأ، بينما تقطع أصوات صراخهن وأنينهن قهقهات ولعنات أفراد شرطة إنفاذ القانون.

منذ استقلال السودان وحتى مجيء انقلاب البشير في 1989، كانت الهوة واسعة بين نساء الريف والمدن، المتعلمات منهن وغير المتعلمات، في مستويات الدخل والتمتع بالحقوق المكتسبة مثل حق العمل والتعليم والتنقل. لكن سياسات النظام البائد الاقتصادية والاجتماعية قلصت إلى حد بعيد تلك الهوة، حتى كادت أن تتلاشى الفوارق، إلا من استثناءات قليلة ارتبطت بأوضاع فئات محدودة من النساء المنحدرات من أسر أرستقراطية أو لها ارتباط بالسلطة الحاكمة. وصار العنف الممأسس بواسطة أجهزة السلطة القمعية هو السمة السائدة في حياة قطاع واسع من النساء السودانيات.

وعلى الرغم من تقلص الفوارق بين نساء الريف ونساء المدن في عهد النظام البائد، ولا سيما في السنوات الأخيرة منه، إلا أن أوضاع نساء الأقاليم التي كانت تعاني من الحرب الأهلية التي أشعلها النظام ضد مواطنيه – دارفور، جنوب السودان، جبال النوبة، النيل الأزرق وشرق السودان – كانت هي الأكثر هولًا ومأساوية. فقد جلبت الحرب لنساء هذه المناطق صنوفًا جديدة من العذاب، تبدأ من التشريد والنزوح وفقدان العائل وأفراد الأسرة، وتنتهي بالاغتصاب تشفيًا والقتل. فلا يمكن بأي حال مقارنة معاناة نساء هذه المناطق المنكوبة من جراء الحرب بنساء بقية أقاليم السودان.

بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشها معظم السودانيين منذ الاستقلال في عام 1956، والتي استفحلت في فترة نظام الجبهة الإسلامية الانقلابي، اضطرت المرأة السودانية إلى الخروج إلى العمل مبكرًا في مهن ظلت هامشية على الرغم من أهميتها في التكوين الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. عملت النساء السودانيات مبكرًا في الزراعة والرعي والخدمة المنزلية والأسواق. واجتذبت هذه المهن التي ظلت “هامشية” قطاعًا واسعًا من النساء المتعلمات وغير المتعلمات. إلا أن نظام البشير كرس جهده لمحاربة عمل المرأة السودانية في العمل المأجور داخل أو خارج المنزل. وواجهت مهن مثل بائعات الشاي والقهوة (“ست الشاي”) وصانعات الأطعمة الشعبية في الأسواق، حملات مستمرة ومسعورة. شكلت هذه الحملات المتكررة موردًا ماليًا هائلًا لشرطة النظام العام ومحاكمه التي كانت تثير الفزع والرعب في أنفس النساء السودانيات العاملات في هذه المهن، من خلال مصادرة معدات عملهن وتقديمهن إلى محاكم النظام العام، وإجبارهن على دفع غرامات باهظة لاسترداد معدات العمل – مقاعد لجلوس الزبائن، أدوات صنع الشاي والقهوة، أواني الطعام وغيرها. ويلاحظ هنا أن إجراء المحاكمة يشمل دفع غرامة مالية لاستعادة معدات العمل، وهي آلية تضمن لأولئك النساء الاستمرار في عملهن ليحافظن على تغذية هذا الجهاز القمعي بالإتاوات المالية المقتطعة من دخولهن الشحيحة.

خلقت هذه الحالة من التعدي المستمر من قبل السلطة الحاكمة على الفضاء العام الضيق بطبعه وعلى جهود النساء السودانيات في العمل المستقل، حالة من التضامن الطبيعي بين المواطنين السودانيين وهؤلاء النسوة الكادحات. انعكس هذا التضامن غير المعلن خلال السنوات الأخيرة من عمر النظام البائد، في مقاومة المواطنين لهذه الحملات بالتصدي لها، وحماية النساء العاملات، وإنقاذهن من تلك الهجمات المسعورة، حيث كان زبائن هؤلاء النسوة والمارة في الشوارع يقومون بتحذيرهن قبل وصول الحملات لحماية معدات وأدوات العمل وإخفائها حتى مضي الحملة.

خلّفت هذه الأجواء من القمع المنظم للنساء التي أوجدها النظام البائد كمًا هائلًا من المرارات المتزايدة في أنفس النساء وقطاع كبير من السودانيين، وساهمت في إيجاد وضع من الظلم وانعدام العدالة ظل محتقنًا قابلًا للانفجار في أي لحظة، علاوة على أنها وحدت النساء وأزالت إلى حد كبير الفوارق الاجتماعية بينهن.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.