سرقة الذاكرة: آثار السودان بين الح.رب والنهب

صحيفة الهدف

راما عبد الله
#ملف_الهدف_الثقافي
بعد عامين من الحرب المدمرة التي اندلعت في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، والتي أسفرت عن عشرات آلاف القتلى وملايين النازحين، لم تسلم المتاحف والمواقع الأثرية والمقتنيات التاريخية التي تعود إلى آلاف السنين من الخراب والدمار والنهب، تاركةً البلاد تواجه مأساة ضياع الذاكرة الثقافية والحضارية.
في الخرطوم، يبدو المتحف القومي السوداني مثالاً صارخًا على هذه المأساة، حيث يقف تمثال الملك تهراقا وحيدًا في باحة المتحف وسط حطام التماثيل المكسورة وصناديق العرض المهشّمة، فيما غرفة الذهب التي كانت تضم قطعًا فريدة من المجوهرات والحلي الملكية التي يعود بعضها إلى نحو ثمانية آلاف عام، قد سرقت بالكامل، وفق ما أكدت مديرة المتاحف في هيئة الآثار السودانية، إخلاص عبد اللطيف لـ(مونت كارلو الدولية).
القطع الأثرية المسروقة تشمل تماثيل جنائزية من الحجر والبرونز ومزخرفة أحيانًا بالذهب والأحجار الكريمة، إضافة إلى أدوات ملكية وحلي وأوانٍ ومخطوطات، معظمها يعود إلى حضارة كوش، التي ازدهرت على ضفاف نهر النيل في مدن نبتة (كريمة) ومروي، وتوثّق التاريخ العميق للسودان وتوازي الحضارة المصرية القديمة في غناها، بحسب تصريحات المدير السابق لهيئة الآثار والمتاحف، حاتم النور.
ولم تقتصر عملية النهب على الخرطوم، فقد شملت أكثر من 20 متحفًا في السودان، بما في ذلك أم درمان ودارفور، حيث دُمّر متحف علي دينار في الفاشر، ومتحف نيالا، ومتحف الجنينة، فضلاً عن متحف بيت الخليفة في أم درمان، الذي تحطمت مقتنياته التي تعود للقرن الثامن عشر إثر القتال والقصف، ما جعل كثيرًا من هذه المواقع ثكنات عسكرية مؤقتة.
وتشير لجنة حماية المتاحف والمواقع الأثرية إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه القطع يتم تهريبه إلى دول الجوار، مثل مصر وتشاد وجنوب السودان، في حين تقوم الحكومة السودانية بالتعاون مع الإنتربول واليونيسكو بمراقبة الأسواق غير الشرعية ومحاولة رصد القطع المفقودة، غير أن معظم عمليات التداول تتم في سرية تامة وبأسواق محدودة، مما يزيد صعوبة استعادتها.
وأكدت عبد اللطيف أن التماثيل الجنائزية الصغيرة الحجم كانت تلقى “رواجًا كبيرًا في السوق غير الشرعي لأنها جميلة وسهلة النقل”، بينما لم تظهر أي من مقتنيات غرفة الذهب أو التماثيل الكبيرة في المزادات، مما يرجح أن جزءًا كبيرًا منها فقد إلى الأبد. وقد تم توقيف مجموعات تضم أجانب في ولاية نهر النيل وبحوزتها قطع أثرية، والتحقيقات مستمرة لتحديد مصدرها الأصلي.
تقدر الهيئة القومية للآثار والمتاحف الخسائر المباشرة بنحو 110 ملايين دولار أميركي، لكن القيمة الثقافية والتاريخية للقطع المفقودة تتجاوز ذلك بمراحل، إذ تمثل جزءًا من الهوية الوطنية للسودان، وتوثّق الحياة اليومية والرموز الدينية والسياسية للشعوب التي تعاقبت على أرض السودان منذ آلاف السنين.
ويعتبر الخبراء أن ما يحدث ليس مجرد سرقة للذهب والحلي، بل محاولة منهجية لمحو التاريخ والذاكرة الثقافية، بما يشمل تشويه وإخفاء الأدلة المادية على حضارات غنية ومهمة مثل حضارة كوش ونبتة ومروي، والتي تحمل إرثًا إنسانيًا عالميًا، وفق ما نقلته مونت كارلو الدولية.
هذا الوضع يضع السودان والمجتمع الدولي أمام تحدٍ ثقافي وأخلاقي عاجل: حماية ما تبقى من آثار، ملاحقة المقتنيات المسروقة، واستعادة التراث الضائع قبل أن يختفي للأبد، مع إدراك أن كل قطعة أثرية مسروقة تمثل جزءًا من هوية الأمة وذاكرتها العميقة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.