
منتصر منصور
#ملف_الهدف_الثقافي
لا أنكر أنني تردّدت قبل أن أحمل سروالًا عزمت على تقصيره لدى ترزي البلدة الوحيد. وحالما أبصرت واجهة دكّانه المغطاة بجوالٍ مهترئٍ تنغرز فيه قطع قماش صغيرة، نظرت إلى سروالي متحسرًا، وتذكرت أن الحياة معظمها ثقوب. دعونا نرى ما تُسفر عنه الآن. المهم، أزحته ودخلت، فأول ما لاقاني فترينة صغيرة انزوى خلفها جسد مانيكان لأنثى، بدت كالخائفة وتجهد لتتوارى عن الأنظار فلم تفلح. بينما قفز إلى ناظري أن الرجل يغطي مدخله ويعرّي الداخلين إليه. من أين واتتني هذه الفكرة؟ لا أدري. لقد تحسست جيبي أولًا فاطمأننت لما أحمل، ريثما لاحت تقطيبته وإبرته تنهب جسد قماش مجهول. تمعنته؛ قميص سيدة هرعت على وسطه خيوط بيضاء وسوداء متبادلة، كأنها إشارات تتناوب منتصف الأسفلت. رفع رأسه لا سيما أنه شعر بقدوم شخص مثلي، حينما تحوّل تيار الهواء المنصب عليه من مروحة صغيرة في زاوية الغرفة، ثم ركض شعاع شمس سقط أمام وجهه واختفى.
أوقف هزّ أقدامه وتأملني: خيرًا؟
قلت: أرغب بتقصير هذا السروال.
في الغالب لم يُحذّرني أحد أو يشجعني، وعندما لم أجد الموضع مزدحمًا بدا لي أنه سلاح ذو حدين: إمّا أن الوقت مبكر، أو أنه غير مجيد لمهنته – أي فاشل. على العموم وجدتني أعمل بفقه المضطر؛ لأن قطع مسافة بمركبة لأقرب منطقة حضرية يُعد خسارة، كما أن تحذيق غرض مثل هذا يُعد أمرًا سخيفًا في هذه القطعة النائية من الأرض. أعتقد أن ما شجعني على الإقدام على هذه الخطوة ضرورة صنع بدائل وقلة المال نفسه لشراء سروال جديد.
وضع الرجل سيجارة بين شفتيه كانت تقبع على ظهر أذنه، في البداية ظننتها قلمًا بسبب الضوء الخافت. أشعلها وسألني: كبّاية ولا عادي؟
قلت: عادي.
ابتسم قليلًا. طالعتني صورة بإطار على الحائط خلف ظهره لشابين بخُنفس شعر، يرتديان سروالي “شارلستون” وقميصي “تحرمني منك”. في الغالب كان الرجل نفسه وشخصًا آخر. لا بد أنهم كانوا حريصين –ذاك الزمن– على الموضة. ولذلك ارتاح قليلًا واستحسن رغبتي الواعية. في الحقيقة كان السروال طويلًا يزيد على الثلاثين سنتيمترًا، وهي قطعة قماش جيدة لمن يُحسن استغلالها. حسنًا، لا يهم..
آخر اليوم مكثت جوار الدكان، وجلس بجواري شاب يبرم خصلاته. من غير اللائق أن أسأل عن خبرة الرجل بعد أن منحته سروالي راضيًا، كما بدا على محيا الشاب نظرة مطمئنة أحسنت تفسيرها. في الواقع قد لا يتسرب مثل هذا القلق لجيلنا (جيل العطاء المشرئب.. إلخ الترهات)، فنحن من عرفنا الحياة ونُحسب مع “الدقة القديمة”. لقد ألفيت الشاب يحمل خمسة سراويل يزمع أن يضيّقها، وبالداخل طالتني ثرثرة بعض النسوة وهن لا ريب يعمدن بلا سبب مؤكد إلى الاستفاضة بالأسئلة والمحاذير لترزية الأقمشة. وبلا شكوك زائدة قد تحمل إحداهن قميصين وتريد الثاني مثل الأول للضمان. ولذا حين حملت سروالي في ختام الأمر ارتفع قليلًا عن كعب الشيطان، فلَعنت وساوس إبليس التي جلبتني لدكانه.
ماذا أفعل؟ عدت من جديد حانقًا، ترويت وسألته:
–المسألة يا ولدي ليست مقرونة بمقاسك أو طول السروال، بل تتعلق بأن هذا النوع من القماش يتمدد بالغسيل والكي. أعرفه جيدًا، لأن “الموهير” يصبح بمرور الزمن طويلًا.
قلت: حسنًا، سنرى.
لم أناكفه، وقت أن دلفت بعض الإناث. لقد أقنعني فصمتُّ ريثما أخفف من حدة غضبي عليه، وكذا لم أشرع في لومه. مرقت. لدى الباب أوقفني أحد الذين أعرفهم، كان يحمل قطعة قماش أعجبتني للحقيقة. سألته عن الغرض منها، أنبأني أنه بصدد تفصيل صديري ذو جيوب، فهو تاجر. لم أشأ إحباطه، وأجده يزعم للترزي ويتعشم أن تتمدد ثروته، لذا يُحبّذ صنع جيبين داخليين كبيرين بالداخل لدرء اللصوص.
في سوق البلدة، بعد أن تبضعت، بحثت عن قماش الصديري لأعرف سعره. ثم صادفت فتاتين تبحثان عن الموهير عند بائع أقمشة، ولم أدر لماذا. بعد الفينة سمعت صياحًا من بعيد، التفت فوجدته الشاب. بعد التحايا قال لي: لن تجده هنا. فاندهشت من ذكائه الفطري. وبغتة أخرج كيسًا متوسطًا من جيبه الداخلي، قدمه لي وأردف أنها مفاجأة، ثم أقسم علي ثلاثًا أن أقبل وألا أفضها أمامه. مرة ثانية فوجئت بجمال الصديري، للحقيقة لقد أعجبني واندهشت لتمايز هذا المأفون وروعة تفصيلته، بعكس سروالي القصير. فقدرت أن السبب حظي السيئ.
في الواقع أنا مندهش لأنني أبصرت اليوم زحمة غير عادية أمام دكان الخياطة. ثمة ملاسنات طرأت بين ثلاث سيدات، تلتها مشاجرة بين رجلين كان الترزي عاملًا مشتركًا بينهم. ثم أقبل أربعة صبية طلاب مدرسة يحملون زيّهم، كان اثنان منهم سعداء واثنان واجمين بصورة مضحكة.
قررت أن أتمهّل، لكن لم أجد بدًا من العودة له بعد أن يفرغ من المشاحنات. وضعت القطعة بأوصافها أمامه، شعرت بأن الرجل منذهل من عودتي السريعة رغم تبرمي قبل أسبوع. سألني عن كنه القماش، فأخبرته جذلًا أنها هدية من الشاب الفلاني.
في العادة لا أتعجل لمسائل رد الجميل، لكن شيئًا غامضًا كان يلحّ علي أن أفعل. لذلك حذرته مرة أخرى بأن يجوّد الصديري، وعمدت لتكرار الأسئلة وإعادتها بصيغ مختلفة، حينما رأيت قماش جلابيب يعرضه للبيع.
أخذ السيجارة من خلف أذنه ثانية وأشعلها، نفث دخانها أمام وجهي. نظرت له بأمعان فابتدرني: لا تقلق.
قلت: أخشى أن تُقصّره كالسابق ويفسد.
قال: لا تخش شيئًا، ولن ينالك ضرر إن قصّرته.
كأنه يقصد بأنني لم أتكلف فيه شيئًا، وبذا لم يشر لكرم الشاب مباشرة. عندما سألته عن فحوى جملته الأخيرة أردف: لا تنس أنك بادلته الهدية بأخرى، دون أن يعلم أحدكما بالأمر، ولا ضرورة للسؤال عن سعر المعروف.
قلت: كيف؟
ضحك وقال: لقد صنعت له الجيوب من باقي الموهير.
قلت ساخرًا: ألهذا قصّرت سروالي أيها..؟
قال: ماذا أفعل؟ أراد جيوبًا كبيرة و..
لم أنتظر أن يواصل جملته، فأكملتها ساخرًا: والموهير يتمدد.
قال: هذه حقيقة. أنظر للأمر من جانب آخر؛ لقد عاد لك الفعل على عواهنه، بفائدة دون أن تشعر. وأنا أيضًا. لذا سأفصّله لك مجانًا.
لقد عبرت آخر هذا النهار أمام هذا المحل، فلاحظت أن الرجل قد خفّت حدة زائريه، كما هناك تدافع للولوج إليه. من المؤكد أنه أصبح يكسب زبائن جديدين. لقد كان الأمر مثيرًا للتساؤل. ضحكت في سرّي ودمدمت: هل يدرك بعض زبائنه هؤلاء من أين أتتهم الثقة كي يتعاملوا معه مرة أخرى؟
لا أظنهم يعلمون أن كل شيء قد يتمدد إلا الحذر هذه الأيام.. لذلك هم أحرار!
Leave a Reply