“السوشيال ميديا”.. النوافذ المفتوحة أبواب للحسد والخ.راب!

صحيفة الهدف

د.امتثال بشير
#ملف_الهدف_الثقافي

“وَكَتَمْتُ عَنْ أَبناءِ الزّمَانِ حَدِيثَهُمْ؛ كِتْمَ العَقيقِ لِقَرْنِ أُذُنِ الضَبعِ”
المتنبي
في زماننا هذا صار العالم غرفة واحدة. تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى جزء لا يتجزأ من تفاصيلنا اليومية؛ نتشارك من خلالها أفراحنا، إنجازاتنا، ولحظاتنا بخيرها وشرها. ولكن خلف هذه الصور الملوّنة والمنشورات اللامعة يكمن خطر صامت يتسلل دون إذن، يفسد السكينة ويغتال البركة؛ إنه الحسد، ذلك الشعور القاتل الذي لا يُرى ولا يُسمع، لكنه قادر على هدم العلاقات، وتبديد النِّعم، وإشعال نيران الغيرة في قلوب بعض الآخرين. فهل أصبحت “السوشيال ميديا” بوابة مشرعة للحسد والغيرة؟ وأين تكمن حدود المشاركة الآمنة؟
لم تعد السوشيال ميديا مجرد وسيلة ترفيه أو تواصل، بل تحولت إلى مرآة يعكس بعض الناس حياتهم من خلالها بمثالية. ومن هنا يبدأ الخطر، عندما يبدأ الآخرون بمقارنة أنفسهم بتلك الحياة المصوَّرة، التي كثيرًا ما لا تمت للواقع بصلة. يتنامى الحسد دون أن يدركوا أن ما يرونه ليس القصة الكاملة، بل مجرد لقطة منتقاة بعناية من حياة مليئة بما لا يقال.
صارت المنصات الاجتماعية تعج بصور السفر والهدايا والمناسبات الفاخرة والمنازل الأنيقة والسيارات الفارهة. هذه العروض المستمرة للنجاح قد تخلق لدى البعض شعورًا بالنقص، وتفتح بابًا واسعًا للحسد، خاصة إذا ترسخت لديهم قناعة بأنهم لا يملكون ما يملكه غيرهم. تبدأ المقارنة، يتسلل الضعف، ويتسيد الحسد ناصية القلوب، حتى ولو لم يُعلن عنه.
الأخطر من ذلك هو التأثير العميق لهذه المشاعر على النفس البشرية. فقد أثبتت دراسات عدة أن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل، خاصة عندما يقترن بالمقارنة المدمرة، يؤدي إلى زيادة معدلات القلق، الاكتئاب، وانخفاض تقدير الذات. كل هذه الأعراض ليست إلا ثمارًا مرة لشجرة الحسد والغيرة التي نرويها يوميًا بعيوننا قبل ألسنتنا.
وفي ظل الواقع الرقمي المفتوح، بات من الضروري أن نعيد التفكير، ونُرجع البصر كرتين في طريقة عرض تفاصيل حياتنا اليومية. إذ من الحكمة ممارسة الحياة الشخصية بنوع من “الصمت الرقمي”، بالسيطرة وانتقاء ما يمكن مشاركته مع الآخرين، لا سيما ما يتعلق بالأبناء وذكائهم، النجاح المهني، الممتلكات، العلاقات الزوجية، أو الأرصدة المالية. فالحقيقة المؤلمة أن من يحسدك قد لا يكون غريبًا؛ بل غالبًا يكون من المقربين الذين اطلعوا على خصوصياتك.
لا تتحدث عن أفراحك، مشاريعك، أموالك، صحتك، وسائر سعادتك إلا لمن تثق بهم وتأتمنهم. فالنعمة تحتاج إلى ستر، والمشاركة المفرطة قد تكون بوابة لانكشاف النعم أمام أعين لا تتمنى لك الخير، وإن تزيّنت بالكلمات الطيبة. وحتى في اللقاءات الواقعية، احفظ خصوصيتك أمام من لا تعرف نواياه.
وإن تساءلت: من أين يأتي الحسد؟ فغالبًا يدخل من الأبواب التي فتحناها بمحض إرادتنا، عندما دعونا الآخرين للتطلع على تفاصيلنا. ومن هنا تبدأ القصص الموجعة: مشاريع لا تكتمل، أبناء لا ينجحون، نعم تتبخر، مكاسب تتلاشى، صحة تتدهور، زواج ينهار، أو حتى فقدان أعزاء دون سبب واضح. السبب كما يشاع: الحسد، ونحسبه ابتلاءً إن وقع فلا مفر إلا بالصبر. وقد عبّر المتنبي عن هذا المعنى ببيت خالد:
“اصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتلهُ؛ فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله”.
واقع الحال اليوم ومع نشر كل شيء على العلن، لم يعد من الترف أن نعيد حساباتنا، بل من الضرورة. فالصمت لم يعد فقط راحة، بل وقاية. والخصوصية لم تعد خيارًا، بل درعًا واقيًا من عيون لا نعرف حقيقتها.
قلل من نشر خصوصياتك، فليس كل من يضحك لك يتمنى لك الخير.
قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “إِستَودِعُ اللَهَ دِينَكَ وَأَمانَةَ رَأيِكَ وَخَواتيمَ عَمَلِكَ

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.