نانسي عجاج.. أوان “ميلاد” جديد

صحيفة الهدف

عمرو شعبان

#ملف_الهدف_الثقافي

في أضابير ذلك الإفطار الرمضاني، الذي لم يكن سوى طقس سنويّ يجمع ثوار الحرف والكلمة، كان المشهد يختزل حكاية وطن. قومٌ أقبلوا على بعضهم يتلاومون شوقاً من فرط الغياب والانشغال، تتسلل من عيونهم نظراتٌ وحواراتٌ صامتة، تنطق بأن الفجر قادم لا محالة، وأن الأمر لا يتعدى تحديد موعد وتوقيت الانفجار.

لم يكن ذاك الإفطار الذي نظمته سكرتارية شبكة الصحفيين السودانيين عادياً هذه المرة، ففي كل مرة ينفضّ السامر، لكنّ “هيهات” هذه المرة لم تكن سوى تعبيد لطريق طويل محفوف باللحن والدماء والانتصار.

ضربت السكرتارية آنذاك موعداً غرامياً موغلاً في المفاجأة، مقدمة على منصتها “نانسي عجاج”.

كانت المرة الأولى التي يصدح فيها صوتٌ كصوتها في محفل تجري الأحبار في عروق كل مكوناته بدلاً عن الدماء، فعرفناها وعشقت هي شبكتنا.

هي ليست مجرد مغنية، بل هي حكاية إصرار وشخصية قوية وفريدة، لم تنحنِ يوماً للعواصف التي عصفت بحياتها وفنّها. كل محطة في مسيرتها كانت شاهداً على صلابتها، وكأنها تمتحن ذاتها في كل مرة، فتخرج أكثر قوةً وإشراقاً.

ولعل ما لفت نظري بتركيز تملكني حد الثمالة هو ظهورها في ذات فيديو كليب لأغنية “غربة” عام 2015 إن لم تخن الذاكرة، وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية، في تأكيد على موقفها الراسخ الرافض للظلم وانحيازها الفطري لما هو إنساني قبل الموقف السياسي. أدركت آنذاك أي معدن شكل شخصيتها التي لا تقبل المساومة. لقد كانت مسيرتها رحلة بناء، حيث لم تخذلها موهبتها في لحظة يأس، ولم يخذل فكرها حنجرتها في لحظة غضب.

نانسي.. على وقع صوتها، تحوّل الغناء الوطني من مجرد أناشيد تُردّد، إلى فعل تعبوي، يعيد تشكيل الوعي ويشعل في النفوس جذوة المقاومة برزانة لا بانفعال، كنبرتها التي تبث حكمة التخطيط الهادئ في عقول أدمنت الإيمان بفعل الثورة واستحقاق التغيير.

منذ زمن بروزها لم يجد الكثير منا متكأ سوى صوت نانسي. فأعادت صياغة الجمال لحناً وصوتاً بهدوء فلم تعد بعض الأغاني أغانٍ بل أضحت بيانات ثورية، وصرخات مكتوبة باللحن.

كانت أغنية “ميلاد” بلاغاً سرياً لمن سقط غضبهم تحت وطأة هموم الحياة ومطالب الأولاد وحاجيات الأسرة.. كانت كتاباً للتاريخ يعكس حجم التدهور منذ كنا في القمة أصالة وحضارة وتنوعاً يستوجب الاحتفاء إلى “مجرد واطة لمة ناس تفل”… “ميلاد” كانت إعادة الذاكرة لمن فقدوها في زحمة الحياة فنسوا الوطن وتناسوا الوطنية فتفشت حالة “اللا منتمي”..

“ميلاد” كانت إعادة تعريف لهوية من ظنوا أننا بلا تعريف، فاستباحونا كـ(هوانات) حتى حكمتنا القبور.. كانت “ميلاد” إعلاناً للانتماء العميق الذي لا تهزه العواصف.

وجاءت “حلم” ناسفةً كل مشاريع الخنوع والانكسار ببث الأمل، فكانت: “النيل سيل الأكرمين ما بشيل حلم أطفال يفوت.. النيل أصيل معنى وصفات” وصولاً إلى:

“لو خوفنا راح.. وطريقنا مرصوف بالثبات..

ومشينا للحرية صاح لابد أكيد…

ومهما طال الليل ضناهو..

الفجر جاي وضياهو عيد..

ونعود عزاز زي ما مضى..

ونفوسنا يرويها الرضى..

وضميرنا تملاهو الحياة..

وتشرق شموس الأغنيات!!”

أغانيها هي قصائد عن الوجع والأمل، عن الوطن والإنسان، تعيد رسم الخارطة بغير لون الخوف. ففي زمن الهشاشة، كانت نانسي صوتاً لا يهادن، وفكرةً لا تساوم، وقامةً لا تميل.

نانسي عجاج.. مطالبة اليوم بـميلاد جديد… فهي تجسيد للجيل الذي حمل على عاتقه مسؤولية التغيير، فحوّل الجمال إلى سلاح، والفن إلى منبر. صوتها هو مرآة تعكس أحلام شعب لا يزال يطمح في غدٍ أجمل، وذاكرة لا تسمح للنسيان بأن يمحو تاريخاً كتبته أيادٍ آمنت بأن الفن هو الضوء الذي يشق عتمة الظلام. هي الحلم الذي نبت من قلب الوجع، ليُزهر أملاً في فضاءٍ أرحب.

شكرًا نانسي وشكرًا عميقا الإنسان والشاعر وصاحب الكلمات فيصل عبد الحليم…

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.