استقبال الرئيس الامريكي ترامب لرؤساء (5) دول أفريقية: تحليل استراتيجي بين (المساعدات الإنسانية) و(مطاردة المعادن النادرة)

أ‌. طارق عبد اللطيف ابوعكرمة
المقدمة: (أفريقيا في استراتيجية ترامب – من الإهمال إلى الاهتمام المفاجئ):
في السياسة، كما في الجيولوجيا، غالبًا ما تُخفي القشرة الناعمة للقارات صراعات عنيفة على العمق؛ قوى تتزاحم لا على الإنسان، بل على ما تحت قدميه. وفي هذا السياق، لا يمكن النظر إلى استقبال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لرؤساء خمس دول أفريقية هامشية (بالمقارنة مع القوى الكبرى في القارة) بوصفه حدثًا بروتوكوليًا أو مجاملة دبلوماسية. لقد كان ذلك الاستقبال بمثابة بلاغ استراتيجي للعالم: أن أفريقيا لم تعد هامشًا جيوسياسيًا، بل مركزًا عصبيًا لصراع الإمبراطوريات المعاصرة على المعادن النادرة، على الطاقة، على الخرائط الجديدة للسلطة.
عندما استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الأولى (2017-2021) رؤساء نيجيريا وجنوب أفريقيا فقط، ثم في ولايته الثانية (في 2020) استقبل رئيس جنوب أفريقيا مجددًا، كان ذلك يعكس سياسة أفريقية ضيقة الأفق، تركز على:( الشركاء التقليديين (نيجيريا كقوة اقتصادية، جنوب أفريقيا كبوابة للقارة). قضايا أمنية محددة (مثل مكافحة الإرهاب في الساحل).
ما فعله الرئيس الأمريكي ترامب لا يندرج ضمن إرادة استعمارية كلاسيكية، بل هو تعبير مكثف عما يمكن تسميته بـ(البراغماتية المعدنية) — تلك الفلسفة السياسية التي ترى في الأرض مصدرًا للقوة أكثر من الإنسان نفسه، وفي الصخور مستقبلًا أكثر من الثقافة، وفي الجغرافيا ربحًا أكثر من التاريخ. لقد كان مشهد الترحيب(يوليو2025) برؤساء السنغال، موريتانيا، الجابون، ليبيريا، وغينيا بيساو تعبيرًا صارخًا عن انتقال أفريقيا من مرحلة (المساعدات) إلى مرحلة (الاستخلاص)، ومن خطاب (إنقاذ الشعوب) إلى خطاب (امتلاك العناصر النادرة).
إن استدعاء دول بعينها في جدول أعمال الرئيس الأمريكي لا يتم اعتباطًا. فهذه الدول، وإن بدت صغيرة الحجم والدور في الخطاب الإعلامي، تملك باطنًا غنيًا باليورانيوم والمنجنيز والفوسفات والبوكسيت والمعادن الضرورية لصناعة المستقبل: رقائق الكمبيوتر، البطاريات، تقنيات الطاقة النظيفة، والأقمار الصناعية. ومع تزايد التوتر بين واشنطن وبكين، تصبح السيطرة على هذه الموارد أكثر أهمية من السيطرة على العواصم، وتغدو زيارة رئيس دولة صغيرة أثمن من توقيع معاهدة في نيويورك.

 

الجدول رقم (1): يوضح الدول المستهدفة، والتي تمتلك موارد استراتيجية:
الدولة المورد النادر الأهمية
السنغال الفوسفات، الذهب، الغاز أساس الصناعات الكيماوية والأسمدة.
موريتانيا الحديد، الذهب، النحاس مورد رئيسي للصناعات العسكرية والإلكترونية.
الجابون المنجنيز، اليورانيوم، الأخشاب اليورانيوم حيوي للطاقة النووية، والمنجنيز لصناعة الصلب.
ليبيريا المطاط، الماس، خام الحديد المطاط أساسي للصناعات الدفاعية (إطارات الطائرات).
غينيا بيساو البوكسيت، الفوسفات البوكسيت يُستخدم في صناعة الألومنيوم (حيوي للطائرات).
# (الصين تسيطر على 60% من إنتاج المعادن النادرة عالميًا، وأمريكا تريد كسر هذا الاحتكار).
الرئيس الأمريكي ترامب، الذي لا يؤمن بالمثالية الليبرالية بقدر ما يؤمن بـ(صفقة العالم)، اختزل العلاقات الدولية في منطق الربح والخسارة. لم يكن يهمه ما إذا كانت الدول الأفريقية تعاني من هشاشة الدولة، أو صراعات إثنية، أو فقر مدقع. المهم هو ما يمكن استخراجه من أرضها، وبأي كلفة سياسية. فالسياسة، من هذا المنظور، ليست إدارة للسلام، بل ترميز للموارد. وكل رئيس يُستقبل، إنما يُستقبل بصفته وكيلاً محتملاً لعقدٍ معدني جديد، لا ممثلًا لشعب أو لحضارة.
ما يلفت الانتباه هنا هو الانتقال من فكرة (الهيمنة الناعمة) إلى ما يمكن تسميته بـ(الهيمنة المحسوبة)؛ حيث لا تُغرق أمريكا الدول الأفريقية بقروض طويلة الأمد كما تفعل الصين، بل تحاول تقليص المساعدات وتحويلها إلى استثمارات مشروطة: التعدين مقابل الأمن، أو النفاذ إلى الأسواق مقابل إقامة قواعد عسكرية. وهنا لا بد من التذكير بأن الرئيس الأمريكي ترامب، في أكثر من خطاب، وصف المساعدات الخارجية بأنها (خسارة اقتصادية)، مشيرًا إلى أن بلاده (لا تجني شيئًا من أفريقيا). إنه منطق السوق وقد تلبّس ثوب الدولة.
لكن في هذه اللحظة الاستراتيجية أيضًا تكمن مفارقة فلسفية خطيرة: حين تُختزل القارة الأفريقية إلى مخزن للمعادن، يُختزل الإنسان الأفريقي ذاته إلى وظيفة (الحارس)، أو (المُسهّل)، أو (الشرطي المحلي). ما تفعله هذه السياسات ليس فقط نهب الثروات، بل إعادة تشكيل الوعي الجيوسياسي حول أفريقيا نفسها: من قارة تُنتج الثقافة إلى قارة تُستنزف. ومن ثم، فإن الخطر ليس فقط في فقدان الموارد، بل في إعادة إنتاج أفريقيا كمجرد “محطة وقود” لمستقبل الآخرين.
استراتيجية الرئيس الأمريكي ترامب ليست فريدة في هذا المعنى، لكنها أكثر وقاحة في الإفصاح عن نواياها. فعلى عكس الصين، التي تمارس تأثيرها عبر البنية التحتية واللغة الدبلوماسية الهادئة، فإن أمريكا (الترامبية) جاءت إلى أفريقيا بدون أقنعة: تريد المعادن، وتريدها الآن، وتريدها بثمن سياسي رخيص. من هنا نفهم لمَ تم تجاهل دول مثل أنغولا أو إثيوبيا رغم حجمهما وتأثيرهما؛ لأنهما باتتا أقرب إلى المدار الصيني، أو لأنهما ببساطة لم تعرضا ما يكفي من تسهيلات.
ولعلّ الفكرة الأهم في هذا التحليل تتعلق بتأمل العلاقة بين الجغرافيا والسلطة. ففي عالم ما بعد الحداثة، لم تعد السلطة تقيم في العواصم وحدها، بل في الجيوبولوجيا: في أماكن لا تُرى، في مناجم نائية، في أحشاء الأرض. ومن يملك القدرة على عقد صفقات في تلك الظلال، يملك التحكم في الضوء. بهذا المعنى، أفريقيا ليست فقط (قارة الغد)، بل هي ساحة الصراع الميتافيزيقي على معنى المستقبل ذاته: هل سيكون المستقبل صينيًا، أمريكيًا، أم شيئًا ثالثًا لم يولد بعد؟
هل نجحت سياسة الرئيس الأمريكي ترامب؟ ربما جزئيًا، إذا قسنا النجاح بارتفاع الاستثمار الأمريكي في قطاع التعدين بنسبة (25٪) خلال ولايته. لكن الصين، رغم ذلك، بقيت أكثر رسوخًا؛ لأنها لم تكتفِ بالمعدن، بل بنت حوله سردية شراكة واستثمار طويل الأمد، حتى لو كانت أحيانًا وهمية. فالهيمنة لا تكتمل بالقوة فقط، بل بحاجة إلى معنى. والرئيس الأمريكي ترامب، برغم كل صفقاته، فشل في تقديم هذا المعنى.
تبقى أفريقيا، في هذا السياق، بين مطرقة الاستغلال الخارجي وسندان غياب رؤية داخلية. والدرس الجوهري هنا أن القارة لن تُحرَّر من الخارج، ما لم تُسترد أولًا من الداخل — في المخيال، في السياسة، في الاقتصاد، وفي الوعي الذاتي. وحتى ذلك الحين، ستبقى كل زيارة رئاسية، وكل عقد تعدين، وكل قاعدة عسكرية، مجرد فصل جديد في مسرحية طويلة عنوانها: من يملك أرض أفريقيا، يملك مفاتيح العالم.
إن على إفريقيا اليوم، وهي تقف على مفترق طرق بين ماضي النهب والاستعمار ومستقبل الاستقلال الحقيقي، أن تعيد صياغة علاقتها بشعوبها لا بوصفها (موارد بشرية) أو (كثافة ديمغرافية) بل باعتبارهم جوهر المعادلة الحضارية والنهضوية. فالإرادة الإفريقية يجب أن تنبع من الداخل، وأن تُبنى على تحقيق العدالة الاجتماعية، وتمكين المجتمعات المحلية، وبناء أنظمة تعليمية وصحية واقتصادية تعكس الهوية والثقافة والقيم المشتركة لشعوب القارة. إن أي نهوض إفريقي حقيقي لا بد أن يتأسس على الانحياز الجذري لقضايا الناس، لا على تبعية جديدة تُدار بأدوات رقمية أو شعارات معولمة فارغة.
وفي هذا الإطار، فإن النهوض الإفريقي العادل يشكل عمقًا استراتيجيًا للنهوض العربي، كما أن التراخي الإفريقي عن التغيير الحقيقي يُضعف إمكانات التحرر العربي، ويكرّس الانقسام، ويعزل الأمة العربية عن محيطها الطبيعي. لذلك، فإن وحدة القضايا بين إفريقيا والعالم العربي ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة تاريخية واستراتيجية، ومقدمة لازمة لبناء جبهة تحررية قارية تضع في قلب أولوياتها إنهاء الحروب، كسر التبعية، واستعادة الكرامة الإنسانية. فبين نيروبي والقاهرة، بين بريتوريا والرباط، ثمة خيط من الأمل يمكن أن يُنسج إن نحن آمنّا بالشعوب لا بالحدود، وبالعدالة لا بالموازنات، وبالتحرير لا بالإدارة المؤقتة للأزمات.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.