7 أكتوبر: ضرورة نضالية أم مغامرة؟ فلسطين بين الكارثة الأخلاقية والصمت العربي

بقلم/ أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

في لحظات التحوّل التاريخي، لا تُقاس الوقائع بموازين الخسارة والربح المباشرين، بل بمدى قدرتها على إعادة تعريف الأسئلة الجوهرية: من نحن؟ وما الذي تبقّى من مشروعنا الجمعي؟ بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى ما جرى في (7 أكتوبر 2023) بوصفه مجرد عملية عسكرية مباغتة قامت بها ح م اس ضد الاحتلال الص هي وني، بل باعتبارها هزّة رمزية كبرى، أعادت فتح الجرح الفلسطيني على مصراعيه، وكشفت كل ما تراكم من صمت وتواطؤ وخداع في الموقف العربي الرسمي والدولي.

لقد جاءت (7 أكتوبر)، لا كحدث معزول، بل كنتيجة منطقية لاختناق مشروع التسوية الذي وُلد ميتًا منذ اتفاق أوسلو، وتعفّن في أروقة التنسيق الأمني والابتزاز المالي. ومن حيث السياق التاريخي، فإن لحظة السابع من أكتوبر أعادت إلى السطح فكرة أن ال كف اح الم س لح ليس خياراً أيديولوجياً بقدر ما هو ضرورة وجودية حين تُغلق كل النوافذ، وتُستباح الكرامة، وتتحول الحياة اليومية في غ زة إلى نوع من الموت البطيء تحت الحصار والتجويع والتطبيع.

السؤال الذي أطل برأسه فوراً: هل كانت العملية ضرورة أم مغامرة؟ وهنا يتوجب التفريق بين منطق الحساب السياسي ومنطق التاريخ الأخلاقي. فسياسياً، نعم كانت هناك فجوة كبيرة بين الفعل المقاوم ورد الفعل “الإسرائيلي” الهائل، حيث انقضت آلة ال ح رب الص هي ون ية على غ زة في حملة إبادة مروعة لم تستثنِ طفلاً ولا مستشفى ولا مسجد. لكن تاريخياً، لم تكن هذه سوى النتيجة المتوقعة لاحتلال لا يعرف سوى القتل، ولعالم لا يرى الفلسطينيين سوى كأرقام هامشية. إن (7 أكتوبر) مثلت انفجاراً للكبرياء المحاصر، وثورة للجسد المحاصر، وصوتاً في وجه عالَم أصم. وربما، كما قال فرانز فانون: “حين يُمنع الإنسان من الكلام، فإنه يصرخ بحجر”.

على الصعيد الوطني الفلسطيني، عمّقت اللحظة التناقضات القائمة بين جناحي السلطة: “ح م اس” التي تتبنى المقاومة كأفق نضالي، و”فتح” التي تتمسك بخيار التسوية والتنسيق الأمني، رغم إفلاس هذا المسار. لقد بدت السلطة، بقيادة محمود عباس، عاجزة عن اتخاذ أي موقف يعكس الحد الأدنى من تمثيل الشعب، وتحوّلت في نظر الكثيرين إلى جهاز إداري يعمل ضمن شروط الاحتلال لا ضده. أما ح م اس، ورغم صلابة خطابها، وجدت نفسها أمام تحديات غير مسبوقة: من جهة مسؤوليتها عن القرار، ومن جهة حجم المجازر التي طالت المدنيين في غزة، ومن جهة ثالثة تآكل البيئة الإقليمية الحاضنة للمقاومة. وبين الطرفين، بقي الشعب الفلسطيني – مرة أخرى – يواجه مصيره وحيدًا، ممزقًا بين مشروعين عاجزين، وقيادتين منفصلتين عن معاناة الناس اليومية.

وفي غزة تحديدًا، شكّلت (7 أكتوبر) لحظة أمل سرعان ما اصطدمت بجدار الرعب الدموي. كيف يمكن للشعب أن يُراهن على المقاومة، بينما تُدك مدنه دون رحمة؟ كيف يمكن للأم التي فقدت أطفالها أن تفهم معنى “التوازن الاستراتيجي”؟ وكيف يمكن أن نصيغ خطاباً مقاوماً دون أن نسأل عن الثمن، وعمن يتحمل تبعاته؟ ومع ذلك، فالمفارقة أن غزة – رغم الجراح – لم تنكسر. كانت صامدة، بكرامة لا يمكن للاحتلال أن ينتزعها، وبإيمان لم يأتِ من شعارات، بل من التاريخ، من مفردات يومية تتقنها نساء الشهداء، ورجال الخنادق، وأطفال المخيمات.

أما الأنظمة العربية، فقد بدت في أسوأ حالاتها. اختفت بيانات الإدانة الجادة، وتحوّلت القمم العربية إلى شعائر بلاغية تُكرّر المواقف الرمادية نفسها. أين ذلك الغضب الذي نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس بعد كامب ديفيد؟ أين تلك الروح التي رفضت التطبيع وقاطعت السادات؟ اليوم، تطالب نفس الأنظمة بتكرار تجربة كامب ديفيد، لا على مضض، بل بحماسة، وكأن الخيانة أصبحت سياسة. والأدهى من ذلك أن ما تم رفضه بشراسة في قمة الخرطوم عام (1967)، وما قوبل آنذاك بنقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس احتجاجاً على اتفاقات كامب ديفيد ومقاطعة نظام السادات، بات اليوم نموذجاً تُناشد به الأنظمة العربية الولايات المتحدة لإعادة إنتاجه. أضحت كامب ديفيد – التي كانت رمزاً للعزلة العربية لمصر – مطلباً جماعياً مضمراً أو معلناً، يُسوّق له بوصفه “فرصة سلام” لا بد من استنساها. فهل فقدت الأمة بوصلتها التاريخية إلى هذا الحد، أم أن الذاكرة السياسية العربية أُعدمت بيد الأنظمة نفسها؟ بل إن بعض العواصم سعت إلى تحميل المقاومة مسؤولية الحرب، لا الاحتلال، وسوّقت لفكرة “التهور ال حم ساوي” كمبرر لغض النظر عن المجازر، بل والتواطؤ معها ضمنياً. هذا التبدّل لم يكن سياسياً فقط، بل أخلاقياً. وكأن الأنظمة تقول لشعوبها: لا مكان لكم في معادلة التحرر، لقد أُغلق الملف.

دولياً، أظهرت (7 أكتوبر) أن الغرب ليس وسيطاً نزيهاً ولا راعياً للسلام، بل طرف في الصراع. أمريكا التي ما زالت تموّل الاحتلال وتزوده بالقنابل الذكية، وأوروبا التي ترفض وقف إطلاق النار باسم “حق الدفاع عن النفس”، أثبتتا أن الشرعية الدولية لا تُطبَّق على الفلسطينيين. بل إن النظام الدولي بأسره بدا وكأنه فقد آخر قناع، وظهر على حقيقته: متواطئ حين يكون القاتل صه ي ون ياً، ومتشنج حين يقاوم الضحية. والأدهى، أن مشاريع السلام التي ما زال البعض يتمسك بها، كحلّ الدولتين، أصبحت مستحيلة. كيف يُقام كيان فلسطيني والسيادة بيد الاحتلال؟ كيف تُبنى دولة وكل يوم تُبتلع الأرض بال مس توط نات؟ وأيّ سلام يمكن تصوره مع كيان يعتبر وجود الفلسطينيين تهديداً وجودياً؟

وهنا تعود الذاكرة إلى قمة الخرطوم بعد نكسة (1967)، حين خرجت الأمة العربية بشعارها الشهير: “لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض”. أين نحن من ذلك الشعار اليوم؟ لقد أصبح الاعتراف تطبيعاً، والصُلح تحالفاً أمنياً، والتفاوض تسليماً بالأمر الواقع. لم تعد فلسطين، عند كثير من الأنظمة، إلا عبئاً ترغب في التخلص منه.

أما الجامعة العربية، التي شُكلت بدعوى الوحدة، فقد تحولت إلى جهاز بيروقراطي عاجز عن حتى إصدار بيان يصف المجازر بمسمّياتها. بل إن بعض أعضاء الجامعة شاركوا فعلياً في مشاريع الضغط على الفلسطينيين للقبول بصفقة القرن، أو على الأقل الصمت عنها. هكذا، يصبح من المشروع أن نسأل: هل ما زال الكيان العربي قائماً إلا على الورق؟ وهل ما زالت الجامعة العربية قادرة على تمثيل “أمة” تخلت عن مركز نضالها؟

إن (7 أكتوبر) أعادت صوغ الموقف الأخلاقي من الصراع. المقاومة لم تُعد ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية. وكل موقف يساوي بين الضحية والجلاد هو تواطؤ مقنّع. وكل خطاب يتحدث عن حلّ الدولتين دون أن يعالج جذور الصراع هو خداع أخلاقي. لأن الصراع مع ال كي ان ال صه ي وني ليس صراع حدود، بل صراع روايات ووجود وسردية: نحن أو هم. هذا هو جوهره منذ النكبة، ولا يمكن التهرب منه بمصطلحات الوسطاء أو بصفقات القوة.

الخاتمة:
في نهاية كل سردية وطنية كبرى، يقف التاريخ متأملاً لا حجم الانتصارات ولا عدد الهزائم، بل اتساق الأمم مع ذاتها: هل خانت رسالتها أم صانتها؟ وهل أحسنت تسمية الأشياء بأسمائها في اللحظات الفاصلة، أم اختبأت خلف اللغة الرمادية؟ إن فلسطين، بكل ما فيها من ألم وكرامة، ليست مجرد مرآة لمأساة مستمرة، بل محكٌّ أخلاقي لجوهر الوعي العربي – اختبار حاسم لكل من يدّعي انتماءه لهذه الأمة، أو لوظيفة النضال، أو حتى للإنسانية ذاتها.

لقد كشفت لحظة (7 أكتوبر)، بكل عنفها ومفارقاتها، مَن هو الذي لا يزال يقف في صف الحياة والعدالة، ومَن ارتضى أن يبرّر الموت بصمت بارد أو تحالف جبان. وبينما تنزف غزة، ويُحاصر الفعل الحرّ بخوف الدول ومساومات النظام الدولي، تبقى الأسئلة الكبرى قائمة، مؤجلة لكن لا تموت.

فهل يمكن لأمة أن تتحدث عن مشروع نهضوي أو وحدة مستقبلية أو عدالة اجتماعية، بينما تساوم على دماء أطفالها في غزة؟ وهل يمكن لمن يتجاهل فلسطين اليوم، أن يدّعي غداً أنه يقف مع الحرية أو الكرامة أو الحق؟

لكن السؤال الأكثر جوهرية، الذي يجب أن يُطرح الآن، في كل ضمير حيّ، وعلى كل منبر عربي، ومن قلب كل عاصمة صامتة:

إذا كانت فلسطين – بجرحها النازف وكرامتها الباقية – لم تعد كافية لتوحد العرب، فماذا تبقى يوحدهم؟ وإذا لم تكن غزة كافية لإيقاظ الضمير، فبأيّ شيء إذن يستيقظ؟

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.