
زكريا نمر
في المجتمعات، التي لا تزال تتأثر بالانتماءات القبلية أو الجهوية، يظهر نوع خاص من المثقفين يُعرف بـ”مثقف القبيلة”. هذا المثقف لا يؤدي دوره كضمير حي للأمة أو كعقل ناقد يسعى وراء الحقيقة والعدالة، بل يتحول إلى أداة دعائية لجماعته، مدافعًا بشغف عن مصالح قبيلته، حتى لو تعارضت مع القيم الوطنية أو المبادئ الأخلاقية.
تجده حاضرًا في جميع النقاشات العامة، لكنه لا يرى فيها سوى فرصة لتسليط الضوء على إنجازات قبيلته، أو للتذكير بنسبتها في السلطة، أو لإثارة قضايا التهميش من منظور جغرافي أو سلالي ضيق. لا يتناول قضايا الوطن من منظور شامل، بل يتعامل معها بمنطق “نحن وهم”، وكأن بقية المكونات ليست سوى خصوم يجب إقصاؤهم أو التشكيك في شرعيتهم.
“”مثقف القبيلة” لا يساهم في تطوير مجتمعه، بل يكرّس جهوده في صراعات وهمية تعزز الانقسام وتعمق الفجوة الاجتماعية. فبدلاً من أن يكون خطابه موحدًا، فإنه يُشعل روح التعصب والانغلاق. يستخدم معرفته ليس لتفكيك هياكل الظلم أو تحليل أسباب التخلف، بل لتبرير امتيازات جماعته وحمايتها من النقد.
ما يثير القلق أكثر هو أن هذا النوع من المثقفين يُفرغ المفاهيم الكبرى مثل “العدالة” و”الهوية” و”التمثيل” من معانيها الإنسانية الشاملة، ليعيد تشكيلها بما يتناسب مع مصالحه الضيقة. فهو لا يسأل: “كيف نبني وطنًا يتسع للجميع؟” بل يطرح السؤال: “ما هي حصة قبيلتي في هذا الوطن؟”
تتجلى خطورته هنا إذ يبدو مثقفًا من حيث الشكل، لكنه في العمق أسير بنية ما قبل الدولة. لا يرى الإنسان ككائن إنساني، بل كعضو في جماعة عرقية أو جغرافية، يُقاس وزنه السياسي بعدد أفراد قبيلته أو قوتهم العسكرية أو موقعهم الجغرافي. إنه ببساطة مثقف مشروط، وليس حرًا.
في ظل هذا المناخ، يتحول المثقف من كائن نقدي إلى أداة للانقسام، ومن حامل لمشروع تنويري إلى مدافع عن الانتماء الأعمى. وهنا، يبرز سؤال أساسي: هل يمكننا بناء دولة مدنية حديثة في ظل وجود “مثقفين” لا يزالون يقيمون الناس بناءً على انتماءاتهم القبلية، ويتعاملون مع الوطن كغنيمة تُوزع بدلاً من كونه فكرة تُبنى؟
Leave a Reply