
بقلم: محمد ضياء الدين
(نحو مشروع فكري يُعيد تشكيل الوعي الجمعي السّوداني ويُواجه توظيف الدّين في السّياسة)
تشهد بلادُنا تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة عميقة، في وقتٍ تتسارع فيه محاولات فلول النّظام الإسـ.ـلاموي البائد العودة إلى السّلطة عبر أدوات الحـ.ـرب والانقسام، وهو ما يُنذر بمخاطر جسيمة تُهدّد وحدة السّودان وسيادته ومستقبل أجياله.
في هذا الواقع المُضطرب، تبدو الحاجة مُلحّة إلى ثورة ثقافيّة وفكريّة جذريّة تتصدّى لهذا الارتداد، وتُعيد تقييم ونقد خِطاب الإسـ.ـلام السّياسي الذي اختطف الدّين، وحوّله من رسالة روحيّة سامية إلى أداة للهيمنة والعنف والإقصاء، تحت مظلّة نظام ديكتاتوري ثيوقراطي عسكري، أرْسى دعائم بنية تحتيّة عميقة للقمع والإرهاب الفكري. هذه البنية لا بد أن تُواجَه بثورة مضادّة ثقافيّة وفكريّة تُوازيها في العُمق وتتجاوزها في الشّمول.
تأسيسًا على ذلك، يسعى هذا المقال إلى تسليط الضّوء على أهمّية استعادة البُعد الثقافي والفكري من أجل ترصين خطاب التّغيير السّياسي والاجتماعي، وفي مُقارعة خِطاب الإسـ.ـلام السّياسي. إذ إنّ أيّ مشروع للتّغيير لا يمكن أن يُكتب له النّجاح ما لم يبدأ بتحرير حقيقي، ينطلق من إعادة تعريف مفاهيم الوعي بالتّغيير ذاته.
إنّ الصّراع مع تنظيم الإسـ.ـلام السّياسي لا يُختزل في تنافس سُلطوي فحسب، بل هو مُواجهة حتميّة ذات بُعد استراتيجي تتّصل بجذور الوعي الجمعي، وتُعيد ترتيب العلاقة بين الدّين والسّياسة والمجتمع.
قد يتساءل البعض عن الكيفيّة الممكنة لإنجاز هذه المهام في ظلّ الحـ.ـرب، وعن الوسائل المُتاحة لذلك. غير أنّ ما هو ممكن ومُتاح في اللّحظة الرّاهنة لا يُستهان به، بل يُمثّل نقطة انطلاق حقيقيّة يمكن البناء عليها. ففي قلب الحـ.ـرب، يمكن أن تنشأ مبادرات فكريّة وإعلاميّة، إذ تستطيع منصّات التّواصل الاجتماعي، والمجتمعات الصّغيرة، والمؤسّسات التّعليميّة، والمَنابر السّياسيّة والإعلاميّة، أن تلعب أدوارًا مُؤثّرة تُبقي الفكرة حيّة ومُتداولة، وتُعبّر عن ديمومة الوعي، وتكسر احتكار الخِطاب الإسـ.ـلاموي.
انطلاقًا من هذا التّصوّر، لا يجوز تأجيل العمل لما بعد الحـ.ـرب، لأنّ مُوجّهات ومهام تلك المرحلة تُصاغ الآن، ولأنّ الفكر والفعل الذي لا يحجز موقعه في لحظة التّشكّل، سيجد نفسه خارج السّياق عند مرحلة التّحوّلات الكبرى. فالمواجهة السّياسيّة وحدها لا تكفي رغم أهمّيتها ما لم تُدعَم بمشروع ثقافي قادر على تفكيك البنية الذهنيّة الرّجعيّة التي تُغذّي الخِطاب البراغماتي الإسـ.ـلاموي، بل وتُعيد إنتاجه في كلّ منعطف حسب مصلحة التّنظيم الذّاتيّة.
لعلّ من المهم الإشارة إلى أنّ خِطاب الإسـ.ـلام السّياسي في شكله الحديث المُسمّى بـ”المشروع الحضاري” نشأ معتمدًا على آليّات سُلطويّة في مرحلة حوّلت الدّين إلى منظومة تبريريّة للإقصاء والعنف. ومع أنّ الإسـ.ـلام انتشر في السّودان تاريخيًّا عبر الطّرق الصّوفيّة المُتسامحة، فإنّ الهشاشة الفكريّة العامّة في المجتمع التّقليدي بشكل خاص سهّلت تسرّب خِطاب يلبس عباءة الدّين لتحقيق غايات سُلطويّة دنيويّة. وهنا تتجلّى المُفارقة: فمجتمع روحي مُتسامح الطّابع يُدفَع قسرًا نحو الإقصاء باسم الدّين ذاته.
بناءً على ما تقدّم، فإنّ الصّراع مع هذا الخِطاب يتجاوز الخطوط السّياسيّة الكلاسيكيّة ليمتدّ إلى ميادين التّعليم والثّقافة والإعلام. فقد استطاع الإسـ.ـلامويّون، خلال ثلاثة عقود من سُلطة الثيوقراطيّة العسكريّة المتحالفة مع رأس المال الطّفيلي، أن يُحكموا قبضتهم على مفاصل الدّولة والمجتمع، بينما بقي الخِطاب النّقدي المُضادّ محصورًا ومحاصرًا أمنيًّا. لذا تبرز الحاجة إلى الانتقال بكامل الثّقل المعرفي والنّضالي من موقع الدّفاع السّلبي إلى تأسيس مشروع فكري يُعنى بالإجابة عن الأسئلة الكبرى التي ظلّت عالقة في فضائنا العام، مثل: ما العلاقة بين الدّين والدّولة؟ وما الموقف من السّلطة المدنيّة الدّيمقراطيّة؟
ما موقع الشّريعة ضمن المنظومة القانونيّة؟ كيف يمكن فهم العَلمانيّة والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان في السّياق السّوداني؟ وما موقع المرأة والأقليّات الدينيّة في هذا البناء؟ ثمّ كيف يمكن إعادة صياغة العلاقة بين المدني والعسكري على أسُس تعاقديّة لا وصائيّة؟
تتطلّب الإجابة عن هذه الأسئلة خِطابًا ثقافيًّا يُنتج معرفة بديلة ويُعيد صياغة المفاهيم بطريقة تتجاوز الموروثات الرّجعيّة المُعوّقة للتّقدّم، لا مُجرّد تكرار لإجابات جاهزة تجاوبها الزّمن وتجاوزها الواقع.
يتجسّد نجاح هذا المشروع في قدرته على التّحوّل إلى فعل سياسي يتجاوز النّخب ومثاقفات الصّالونات المغلقة، عبر تصريف خطّ سياسي وإعلامي مُبدع لخِطاب يتّصل بالنّاس، ويمشي بينهم في حياتهم اليوميّة، في الأسواق، ووسائل المواصلات العامّة، والجامعات، ومنصّات التّواصل الاجتماعي، والمَنابر السّياسيّة والإعلاميّة. كما يُفترض أن يكون هذا الخِطاب بسيطًا في لغته ومفرداته، عميقًا في رؤيته، يُعيد ربط الحداثة بالوجدان الشّعبي، ويمنح العقل مكانته في الإنتاج المعرفي.
في هذا المسار، يتجلّى دور المُناضل المُثقّف بوصفه وسيطًا ثقافيًّا يُحوّل الأفكار الكبرى إلى مفاهيم مألوفة تُغرس في تربة النّضال الوطني، وتُشكّك في البداهات المفروضة باعتبارها مُسلّمات مُقدّسة لا يأتيها الباطل من بين يديها، وتُفكّك الخِطاب الذي يستثمر سياسيًّا في الدّين لإدامة الهيمنة والتّسلّط باسم التّفويض الإلهي.
المعرفة لا تُلقَّن، بل تُولد من سؤال وقلق وشكّ مُنتِج يُعيد تشكيل الذّات الجمعيّة ويُهيّئها للانتقال من التّلقي إلى الفعل المُقاوِم.
ولأنّ التّعليم يشغل موقعًا مركزيًّا في هذا المشروع، ينبغي أن يُفهم بوصفه ساحة لإنتاج المعرفة لا إعادة استنساخها، وأن يُحرَّر من التّلقين والاستغلال السّياسي، حتى يعود فضاءً للحريّة والتّفكير النّقدي. عندها فقط يمكن استعادة الدّين من أسر التّوظيف السّياسي، ليعود إلى أصله، رسالة مفتوحة على المعنى الإنساني التّحرّري، وثورة لا يُدركها إلا الثوّار.
مع ذلك، لا يمكن لأيّ مشروع تنويري أن يستمرّ فاعلاً ما لم يرتبط بالحياة اليوميّة للنّاس، ويُرفد نضالهم اليومي بالوعي الثّوري والتّراكم النّضالي، ويستجيب لحاجاتهم الماديّة والمعنويّة، من خلال خِطاب ثقافي حيّ يلامسهم ويمنحهم إحساسًا بفاعليّتهم.
وبهذه الطّريقة يمكن أن نُؤسّس لوعي جديد، هو “وعي الضّرورة” – الوعي الذي يُعيد للنّاس الثّقة في أنّهم ليسوا ضحايا قدر محتوم، بل شركاء فاعلون في صناعة مستقبلهم.
بهذا الوعي، يمكن تفكيك بنية خِطاب الإسـ.ـلام السّياسي، لا عبر ردود الأفعال أو العنف المُقابل، بل بفكر يُحرّر العقل، ويُصالح الرّوح مع ذاتها، ويضع اللّبنات الأولى لسودان ما بعد الحـ.ـرب: سودان مدني ديمقراطي، ينتمي إلى زمنه ويحتفي بتعدّده.
Leave a Reply