كلمة الهدف نتيجة امتحان الشهادة السُّودانية 2023م تضارب النّتائج واهتزاز العدالة والمصداقية

▪️ في وطنٍ مُثقل بالجراح تتقاذفه رياح الحرب، كان الاصرار على إجراء امتحانات الشّهادة السُّودانية للعام 2023م المؤجلة انعكاسًا صارخًا لحالة شبه الانهيار المؤسساتي، والخُذلان الرّسمي، الذي تمارسه حكومة الأمر الواقع ووزارة التّربية والتّعليم بتنفيذها امتحانات جزئية، وإعلان نتائجها على نحو مشوّه ومُربك ومفقد للمصداقية، متجاهلةً القانون المُنظّم للامتحانات الصّادر منذُ العام 1962م بكل ما ينصُّ عليه من مركزية وصرامة وعدالة ومسؤولية وطنية في الحفاظ على سمعة ومستوى العملية التّعليمية.

▪️ إنّ ما حدث لنتيجة هذا العام، لا يُقصي فقط روح القانون، بل يُشكّل تهديدًا مباشرًا لمستقبل التعليم بأكمله. ففي خضم الفوضىٰ السّياسية والأمنية، التي يعيشها السُّودان منذ اندلاع الحرب العبثية في أبريل 2023م، حدثت شروخٌ عميقة في بنية الدولة، ليس فقط في مؤسساتها السّياسية والعسكرية والمدنية، بل أيضًا فيما يُفترض أنها آخر معاقل الأمل والثقة- النّظام التّعليمي- ففي الوقت، الذي تتعالى فيه الأصوات المنادية بحماية الحق في التّعليم وديمقراطيته، باعتباره حجر الزّاوية في إعادة بناء الوطن والمحافظة على وجدانه الموحّد، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ عبثي تجاوز حدود التقصير والخطأ البشري إلى ما يمكن وصفه بانهيار أخلاقي ومؤسسي صارخ.
الذي فجّر الجدل الواسع حول النتيجة، لم تكن أخطاء، بل ظاهرة عمّت كل مدن السُّودان، أبرزت حجم التّشوه، الذي أصاب منظومة التّربية والتّعليم، فالشكاوى بدأت منذ بداية التّحضير لامتحانات لا تشمل كل البلاد مرورًا بالمراقبة والتّصحيح، لتأتي النتائج، لتفضح كل شيء، فمِن قرابة 300 ألف معلم ومعلمة، لم يشارك سوى 50 ألف معلم في عمليات المراقبة والتّصحيح والكنترول، حوالي 17%، وتخلّف أكثر من 400 ألف طالب وطالبة من الجلوس للامتحانات، وعدد الجالسين في الداخل والخارج لم يتجاوز ال200 ألف ممتحن من نحو 650 ألف طالب، فمن الذي راقب الامتحانات وصحّح أوراقها؟ قبل أن تعلن إدارة الامتحانات بكل خبراتها المتراكمة، ولوائحها الصّارمة، نتيجتها المعيبة، التي قادت الملايين إلى التّشكيك في سلامتها ومصداقيتها، وشكّلت صدمة للطُّلاب وأولياء الأمور والخبراء التّربويين والمعلمين على حد سواء. لأن مفارقاتها لا تمت للمنطق بصلة، وتُؤشّر لغياب المسؤولية وتسقط هيبة مؤسسات الدولة، التي احتفظت بقُدسية العدالة في تقييم أبنائها.

▪️ وما حدث ليس مجرد خلل فني أو سهو إداري يمكن تداركه باعتذار أو تحديث برمجي. بل ظهرت النّتيجة في حقيقتها، مرآة مشروخة تعكس انهيار بنية الدولة في زمن الحرب وسيطرة الفلول على مراكز القرار، وانكشاف هشاشة البنى التحتية الرقمية، لمؤسسة يُفترض فيها أن تكون النُّموذج في الانضباط والمصداقية والعدالة والشّفافية.

▪️ ما حدث لا يُصنّف ضمن حوادث الأخطاء، لأن منظومة شفافة ونزيهة، لا يمكن أن تُصدر آلاف النّتائج الرّسمية المتناقضة، إلا إذا كانت آليات التّوثيق قد تعطّلت، وقنوات الرّقابة قد أُصيبت بالشّلل، وقرارات الاعتماد لم تُبنَ على تدقيق، بل على ارتجال أو فساد وانعدام كفاءة، أو سمه ما شئت.

▪️ إن خطورة ما حدث لا تكمُن فقط في ظُلم آلاف الطُّلاب واغتيال مستقبلهم تعليميًا أمام مرأى ومسمع الجميع؛ بل فيما يُمثّله من تهديد شامل لثقة المجتمع في واحدة من أعرق وأهم مؤسسات الدولة. فالامتحانات الوطنية في أي بلد، تُمثّل عقدًا اجتماعيًا غير معلن بين الدولة ومؤسساتها والمواطن، الدولة تُقيّم أبناءها بعدالة وشفافية، والمواطن يُسلّم بنتائج ذلك التّقييم ويستعد لبناء مستقبله بناءً عليه. فإذا فقد المواطن الثّقة في هذا العقد، انكسر معه الإيمان بالمؤسسة، وتحوّل النّجاح إلى احتمالات عشوائية، والرّسوب إلى قسمة عبثية.
التّعليم بطبيعته، ليس مجرد عملية تلقين، بل منظومة قيم ومبادئ، من أهمها العدالة والشّفافية وتكافؤ الفُرص. وعندما تفشل الدولة في ضمان مصداقية نتائج الامتحانات، فإنّها تفقد شرعيتها الأخلاقية أمام شعبها، بل يمكن القول إن انهيار مصداقية الشّهادة السُّودانية، في مثل هذه الحال، يحمل في طياته رسالة مُفزعة مفادها: أن الجُهد والمثابرة لم يعودا ضامنين للنّجاح، وأن الفوضىٰ قد تسلّلت إلى أقدس ما تبقىٰ من مؤسسات الدولة.

▪️ إن آثار هذه القضية لا تتوقّف عند حدود الانفعال الآني والورق والشّاشات، بل تمتد لتصيب وجدان أجيال كاملة، كدّت وسهرت لتبني حلمها على أمل الاعتراف الرّسمي بإنجازها. كيف يمكن أن نستعيد الثّقة في التّعليم بعد الذي جرىٰ؟ وكيف يُبرر هذا الانهيار في أهم اللّحظات، التي ينتظر أن تُتوَّج فيها جهود الطلاب وأولياء أمورهم ومعلموهم؟ بل كيف يمكن للمجتمع بأسره أن يطمئن إلى مخرجات تعليمية يعتريها هذا الكم من العيوب والتّناقض والتّشوهات؟ إنّ الخسارة الحقيقية لا تُقاس هنا بدرجات الامتحان، بل بفقدان الثّقة، وهي أثمن ما يُمكن أن تملكه دولة في تعاملها مع شعبها وهي تسعىٰ لبناء ذاتها.
إنّ هذا الأمر لا يمكن تصحيحه إداريًا، أو تجاوزه في ظل الظروف الاستثنائية، التي تمر بها البلاد. ولا يمكن أن تُختزل المأساة ونُقلل من عمقها، بل يجب التعامل معها بجدية كاملة، حتى لا تتحوّل إلى نمط متكرر في الامتحانات القادمة، ويُقنن للفوضىٰ ويُشرعن للاستهتار بمصائر آلاف الطلاب والطالبات. إن المسؤولية لا تقتصر على وزارة التّربية والتّعليم فحسب، بل يجب محاسبة ومساءلة كل الجهات، التي أصرت على إجراء الامتحانات ووقفت وراء نتيجتها، وإعادة بناء مؤسسات الدولة السُّودانية بإرادة وطنية ترفض التّلاعب بمصائر أبناء الشّعب وتُكرّس العدالة والمسؤولية وتعيد الهيبة لإدارة الامتحانات كمؤسسة رمزية وصرح علمي.

▪️النتيجة، التي أُعلنت جرس إنذار لمستقبل وطن بأسره، واجبنا الوطني والأخلاقي أن نُطالب بتحقيقٍ عاجل وشفاف، يُعيد للطُّلاب المتضررين حقّهم، ويُحاسب المسؤولين عن هذا التّلاعب والإهمال، ويؤسس لنظام تعليمي يُبنى على العدالة والديمقراطية، ويعزز الوحدة الوطنية والتآخي الوطني، لا على الخطأ المركب أو التبرير الممنهج وتكريس التصدع والانقسامات.

▪️ختامًا نرفع صوت الضّمير قبل الكلمات ونقول: لا للحرب، ولا لاستمرارها، ولا لمن أشعلها وساهم في تمددها وإطالة أجلها.

حزب البعث العربي الاشتراكي
كلمة الهدف
2025/5/12

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.