
في ترنيمة حزينة تلامس شغاف القلب، ينقل لاعب نادي الهلال السوداني السابق، هود بشير، عبر أثير تسجيل صوتي استمعت إليه صحيفة “الهدف”، مرثية مؤلمة للخرطوم وضواحيها التي اكتوت بنيران الحرب. بكلمات تتقطر أسىً ووجعاً، يرسم بشير صورة حيّة للدمار الشامل الذي طال العاصمة السودانية، شهادة شاهد عيان يروي فصول كارثة إنسانية تتجاوز حدود الوصف.
2
“أيها الشباب… والله ما أردت أن أُطلعكم على هول ما رأيت”، هكذا استهل بشير حديثه بنبرة تخنقها العبرات، لكن وقع المشهد كان أعمق من أن يُكتم. فمنذ أن وطأت قدماه منطقة الغرة، مروراً بالجيلي، ووصولاً إلى بحري القديمة، تجلّت أمام ناظريه حقيقة مُرّة فاقت أعتى الكوابيس. “حجم الخراب والدمار لا يتخيله بشر… يبدو لي والله أن الحرب العالمية الثانية وهيروشيما لم تشهدا ما شهدناه نحن في الخرطوم”.
3
شوارع مُثخنة بالجراح، بنية تحتية مُهشّمة، وسيارات مُنهبة ومُحترقة، هي أولى اللوحات القاتمة التي رسمها صوت بشير. حفريات عشوائية تنهش جسد الشوارع بحثاً عن عصب الحياة المسروق، وأرتال من المركبات المُجرّدة من هويتها، تقف شامخة كشواهد صامتة على فوضى عارمة عبثت بكل شيء. “ما أظن أن تسعين بالمئة من سيارات الناس لم تُسرق، هذا الكلام حتى حدود الخرطوم التي وصلتها”.
4
أما المدن، فقد تحولت إلى أطلال صامتة، تستحضر في الذاكرة صوراً باهتة لحياة ولّت. بحري القديمة، وسوقها الذي كان يوماً يعج بالبشر، بات خلاءً موحشاً، “وكأن البوم ينعق فيه”. والأحياء الممتدة من الصافية إلى الصبابي، خالية من قاطنيها، يسودها صمت مطبق لا يقطعه سوى صدى الريح. حتى الحلفاية والغُرة، آخر معاقل الحياة التي لمحها، سرعان ما استسلمت لسكون المدينة المنكوبة.
5
وفي قلب العاصمة، تلاشى النظام، وتوارت مظاهر السلطة. شوارع القيادة العامة خالية إلا من ارتكازات قليلة باهتة. وفي المقابل، تحولت بيوت المدنيين في مناطق مثل نمرة واحد واثنين وثلاثة إلى ثكنات مؤقتة لقوات غريبة، تعتمد على إمدادات مياه شحيحة ومجهولة المصدر، وكأنها تستمد بقاءها من رماد المدينة المحترقة.
“المشكلة الكبيرة يا إخوانا هي انعدام المياه”، بهذه الكلمات الموجزة يختزل بشير جوهر المأساة الإنسانية. ففي مدينة عطشى، يصبح البقاء ضرباً من ضروب المستحيل. الكهرباء رفاهية يمكن تجاوزها مؤقتاً، لكن الماء هو عصب الحياة المفقود، الحاجز الأكبر أمام عودة النازحين إلى ديارهم المُقفرة.
6
وحين يتحدث عن البيوت، يرتفع من نبرته أسى مضاعف. “أي بيت يا إخوانا مسروق… مكسر”. لم يسلم شيء من عبث الغزاة، حتى أدوات المطبخ والملابس والمراتب اختفت في ظلام الفوضى. وحدها هياكل الأثاث الكبيرة بقيت شاهدة صامتة على حياة ولّت، تروي قصصاً صامتة عن أيام مضت.
وفي مشهد عبثي مفجع، يصف بشير مدينة هادئة تخلو من الجثث وآثار الاشتباكات، لكن هذا الهدوء ليس إلا قناعاً يخفي وراءه فراغاً وجودياً. “البلد طبعاً مليانة من السيارات المكسرة ومليانة من الشجر ما تقطع… الحياة توقفت تماماً”.
7
حتى الأسواق، نبض المدينة الاقتصادي، تعاني شحاً قاسياً في الغذاء، والسلع المتوفرة شحيحة وباهظة الثمن. أما سلطة الدولة، فقد تبخرت تاركة وراءها فراغاً إدارياً وقانونياً. “لا والٍ، ولا معتمد، ولا سلطة مدنية ظاهرة تدير شؤون العاصمة”.
8
في ختام مرثيته المؤثرة، يشدد هود بشير على أن عودة الحياة إلى الخرطوم مرهونة بعودة الماء، واصفاً البقاء فيها بأنه “تحدٍ يفوق قدرة الإنسان العادي”. وقد اختتم شهادته بكلمات تقطر ألماً وحسرة: “ما رأيته يفوق الوصف، نسأل الله أن يحفظ الجميع، وأن يُفرّج عن أهل السودان هذه المحنة التي تجاوزت كل ما يمكن احتماله”. وبين ثنايا هذه الكلمات، تكمن حقيقة مُرّة: الخرطوم تنزف صمتاً، وأهلها يكابدون وجع البقاء في مدينة تحتضر، بينما العالم يشاهد من بعيد، وكأن المأساة ليست سوى مشهد عابر في حلم كئيب.