
بقلم: طارق عبداللطيف ابوعكرمة
في الأزمات الاقتصادية والسياسية العميقة، يُقاس الأداء الاقتصادي عادةً بمؤشرات تقليدية مثل الناتج المحلي الإجمالي، معدل التضخم، معدلات البطالة، سعر الصرف، وغيرها من المؤشرات الصلبة. غير أن هذه الأدوات لا تلتقط دائمًا التغيرات التي تحدث على مستوى سلوك الأفراد ومشاعرهم أو قراراتهم المبنية على دوافع نفسية. وفي حالة السودان، الذي يعيش واحدة من أعقد الحروب وأكثرها تدميرًا للنسيج الاجتماعي والمؤسسي منذ الاستقلال، يبدو أن مفتاح فهم الركود الاقتصادي الراهن لا يكمن فقط في تعطل المصانع أو انهيار البنى التحتية، بل في الداخل النفسي للمواطن نفسه.
الاقتصاد النفسي، كفرع متقدم من الاقتصاد السلوكي، يعنى بدراسة كيفية تأثير الحالة النفسية والمعنوية على القرارات الاقتصادية اليومية. وفي السودان، حيث يعيش ملايين المواطنين تحت وطأة القلق والخوف وانعدام الأمان والفقد والنزوح، تصبح هذه الحالة النفسية الجماعية عنصرًا مؤثرًا غير مرئي في حركة السوق، ولا سيما في قطاعات مثل الاستهلاك والادخار والإنتاجية والاستثمار وحتى التعليم والعمل التطوعي.
فعلى سبيل المثال، المواطن الذي فقد الثقة في المستقبل، أو يشعر بأن الوطن لم يعد مأوى آمنًا، لن يدخر ماله في بنك محلي أو يستثمر في مشروع صغير، بل يميل إلى الاكتناز أو تحويل مدخراته إلى عملات صعبة، أو إلى شراء سلع استهلاكية قصيرة الأجل. وقد لا يعود مقتنعًا بأهمية التعليم أو بالتخطيط طويل الأمد، مما يخلق دوائر من اللايقين والركود والتدهور المعنوي تتغذى على ذاتها.
هذه الحالة النفسية الكلية، التي يمكن تسميتها بـ “المزاج الاقتصادي العام”، تؤثر بشكل مباشر على النشاط الإنتاجي. فالعامل أو الموظف الذي يشعر بالإحباط المزمن أو بانعدام التقدير أو بالخوف من الحرب والنهب والنزوح، يفقد الحافز للإنتاج وتضعف قدرته على التركيز ويختل انضباطه الوظيفي. وفي السياق نفسه، يفقد المزارع دافعيته للعمل في ظل غياب ضمانات التوزيع، ويشعر التاجر بأن السوق بلا قانون، ويفقد الطالب ثقته في جدوى التعليم. إنها حلقة مفرغة تتسرب فيها الطاقة الوطنية، لا عبر الأرقام فقط، بل عبر الأرواح المتعبة والأذهان المنهكة.
وقد ثبت في العديد من الدراسات الحديثة في علم الاقتصاد السلوكي أن “الثقة” و”الأمل” ليستا فقط مفاهيم أخلاقية أو دينية، بل هما مكونات ضرورية لنمو الاقتصاد. في بلدان مثل فنلندا ورواندا وكولومبيا، تم استخدام أدوات مبتكرة لقياس “مؤشر السعادة المجتمعية” و”درجة الثقة في المستقبل”، وربطها مباشرة بأداء السوق العقاري أو نمو الاستثمار الصغير أو حتى تحصيل الضرائب. وبذلك، فإن غياب هذه المؤشرات عن النقاش الاقتصادي في السودان يمثل فجوة منهجية خطيرة، تحرم صانع القرار من فهم العمق الحقيقي للأزمة.
ومن هنا، فإن التعامل مع الأزمة الاقتصادية في السودان لا يجب أن يقتصر على إصلاح سعر الصرف أو السيطرة على التضخم، بل لا بد من تضمين آليات لإعادة ترميم الحالة النفسية للمواطن. وهذا يتطلب تدخلات تتجاوز وزارة المالية إلى وزارات الصحة والتعليم والإعلام والشباب، عبر حملات وطنية لاستعادة الأمل، والاعتراف الجمعي بالفقد، وتعزيز الشعور بالانتماء، وخلق نماذج أمل واقعية في كل حي ومؤسسة ومدرسة.
إن أزمة الاقتصاد السوداني ليست فقط أزمة مال أو موارد، بل أزمة ثقة عميقة في المستقبل وفي الذات وفي مؤسسات الدولة. ومع دخول الحرب عامها الثالث، تتسع الفجوة بين الأرقام وبين الإنسان، وتتعاظم تكلفة التجاهل. وربما آن الأوان لإدماج النفس في معادلة الناتج المحلي الإجمالي، ليس فقط باعتبارها عنصرًا مستهلكًا أو منتجًا، بل باعتبارها مكونًا حيويًا لصناعة اقتصاد متوازن وإنساني وواقعي. فالاقتصاد، في جوهره، ليس فقط ما تملكه الدولة، بل ما يشعر به الناس. ومع دخول الحرب عامها الثالث، تتسع الفجوة بين الأرقام وبين الإنسان، وتتعاظم تكلفة التجاهل. وربما آن الأوان لإدماج النفس في معادلة الناتج المحلي الإجمالي، ليس فقط باعتبارها عنصرًا مستهلكًا أو منتجًا، بل باعتبارها مكونًا حيويًا لصناعة اقتصاد متوازن وإنساني وواقعي. فالاقتصاد، في جوهره، ليس فقط ما تملكه الدولة، بل ما يشعر به الناس. لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل نحن مستعدون، كدولة ومجتمع، للاعتراف بأن ترميم الروح قد يكون الشرط الأول لإنقاذ الجسد الاقتصادي؟