عمّو الشفَّاتي”قصة ما طويلة خالس”

 

قصة: دكتور معاوية الشفيع
#ملف_الهدف_الثقافي
عرفته، في غرف الدراسة بالجامعة، التي لم نلبث بها طويلًا حتى أمسك بتلابيب السلطة في البلاد، “همج رمت بها الصحاري جنة المأوى”، وتعرفون بقية القصة.
تحول صاحبي لشخصية أخرى، معارضًا-للسلطة الجديدة- لا تلين له قناة، سياسيًا، جسورًا، وعدوًا-للدكتاتورية-هصور. عرفته المنابر، المظاهرات وبيوت الأشباح والسجون، حتى كرهه “الأمنجية”، واعتبروه أحد أسباب “الهدر المالي”، في الجهاز، بما يأكل من فول رديء وموية بالزيت والصلصة في المعتقلات، فعملوا على مضايقته حد “التطفيش”.
اغترب صاحبي “متخلجا”، حاملًا أسمالًا بالية وبعض كتب في “هاند باك”، و”شايلاً” وجعه، في”بقجة”.
استقر به المقام في (“موانئ المدن النفطية”، وشق ايش ما تقبّل، يا أبو الحيل،في قلوبنا مواجعك، متكيّة) كما كان يطيب له أن يردد بشجنٍ ظاهر.
أندغم في حياة الغربة وجرت الدنانير، أو الريالات أو الدراهم-لا فرق- بين يديه، ولكنها-والحق يقال- لم تنسه الهم الوطني، ولا ألهته عن الاستماع ل(يا الخرطوم يا العندي جمالك، جنة رضوااان، طول عمري……..إلخ)، في الغدو -إلى العمل-، والرواح -إلى البيت-.
مرّت، كرّت، أو فرّت-لا فرق-الأيام والسنون، وبدأ يلح عليه همٌّ جديد، سرعان ما أطاح بالهم الوطني وقهقره إلى الدرجة الثانية، شاقًا طريقه-تمامًا كفريق الرابطة/كوستي- إلى الدرجة الأولى الممتازة، ذلكم هو الهم الخاص جدًا،الزواج.
حلم-منذ مطلع شبابه-بالحب الكبير، الذي يتحدى الصعاب و”يصحّى الكهارب في الشوارع، كاسرًا سور الموانع”، ثم الزواج السعيد وبيت الهناء، لكنه -ككثير من أحلام الصبا والشباب العزيزة-دُفن تحت ركامٍ من الثلج.
داوم على “النزول”، للسودان، عامًا إثر عام، وإجازة تلو أخرى، متأبطًا همّه/حلمه، طائفًا به المدن، والقرى والدساكر، باحثاً عن حبيبة/زوجة، “حِنَينة وسُكّرة”، “ضرب إليها أكباد الإبل، وكاد يقتله في طِلابها الشوق”، لكن مساعيه خابت ولَم يجد من توافق “مواصفاته ومقاييسه”، واضطر للاستعانة بأصدقاء وأقارب وأخوات وخالات، يزودهم ب”التعليمات”، لينتشروا في جهات البلد الأربع باحثين عن “البت/الحديقة”، التي هي لا “صفراء فاقع لونها”، ولا زرقا، ذات “خدرة دقاقة”، لكنها-حتماً- تسرُّ الناظرين، (أريدها بتفهم، تناقشني الند للند، تفتكر وتعتقد، وتقول؛ أنا من رأيى….)، كان يقول بحماس. ورغم أن بعض “مراسيل الشوق”، كانوا ينظرون إليه كنصف مخبول، إلا أنهم-وبدافع حبهم له-، لم يتوانوا، أو يتراخوا في محاولة إنجاز المهمة الجسيمة التي ألقاها على كاهلهم الذي لم ترفع الحكومة عنه المعاناة كما وعدت طوال عقود.
“ودارت دورة الأيام “، و”لا جديدًا، جدَّ، ولا قديمًا، زال”، لم يجد صاحبي،الغول، فتاته، والخل الوفي، لم يجد له “العنقاء”،
لكنه -وبعناد الأكراد والبغال- لم يتزحزح عن مواصفاته قيد أنملة، ولَم “يقدم أي تنازلات”، تفضي إلى “تسوية أو حل وسط”..
رغم تندر أصدقائه وتخويفهم له من تقدم العمر، كعامل “يضعف موقفه التفاوضي”، رفض -بشدة- مقترح البعض بأن يترك الأمر لأسرته، تختار له،”واحدة بت ناس، هدية ورضية، مرت ضيوف وبتعرف الواجب”، ويرسلوها ليهو “طرد”، توفيرًا للمال والجهد. ثم ابتسم -بمرارة- وحكى لهم قصة المغترب الذي طلب من أهله أن يزوجوه بهذه الطريقة البالية، وعندما سئل عن سمات زوجة الأحلام، أخبرهم بأنه يريدها بيضاء وطويييلة، وتكون شغالة. فكان أن أرسلوا له ثلاجة،”كولدير” 14 قدم.😂🤣
مضت الأمور هكذا، انسلخت من سنىِّ عمر صاحبى عشرين عاماً ونيف(أم هي نيفٌ وعشرون عاماً؟؟)
إلى أن تفجرت ثورة ديسمبر المجيدة، وما أدراك ما ثورة ديسمبر؟؟

تابعها بقلبه وحواسه كلها، منذ خلقت بيضة في الدمازين، وصارت يرقةً في الفاشر وزالنجي، ثم شرنقة في عطبرة، واستوت ثورة كاملة بالعاصمة المثلثة، شاهدها في الفضائيات والفيديوهات واللايفات والتسجيلات الصوتية في فيسبوك مارك وواتساب آكتون وجان كوم. ساهم فيها بدموعه وجيوبه، والكيبورد، نعى شهداءها وعانق جرحاها، حيّا الشفاتة والكنداكات، وأفرط في الإعجاب ب”دسيس مان”.
خلقت له عالماً موازياً، يعيش فيه آناء الليل وأطراف النهار، ثم كان موكب 6 أبريل الرهيب، واعتصام القيادة المهيب. تابعه بشغف، عاش داخل تلك الجمهورية التي انبثقت من تحت الرماد ككميونة باريس، وأفرزت، أو أبرزت كل ما ينطوي عليه شعبنا من نبل وجود ومكارم أخلاق، هتف مع الثوار ، وعيناه تترقرقان بالدموع، ومارس ال(طق، طرق، طق طق)، مع شباب أعالي النفق، أمعن النظر في الجداريات، وحفظ-عن ظهر قلب- الأغاني والأناشيد، والأهازيج، و”اتحرك قوم يا عبدالحي “. ثم كان يوم سمع فيه -وبلا استعداد نفسي-تلك الأغنية الرائعة:(حا تسقط وحنعرس، نعرس كنداكة، كنداكة) وترد الحسان-بأصوات ملائكية-؛(حا تسقط وحنعرس، نعرس شفاته، شفاته).
اهتز قلبه، حتى انخلع من جذوره، وخرج من قفصه الصدري وتقافز، راقصاً، في أرجاء الغرفة، ثم صعد هامساً، لدماغه : ونحن ليه، ما نعرس كنداكة؟؟
لم ينم صاحبي، ليلته تلك-ولا ليلتين تاليتين-، قضاها يفكر، ويفكر، و(يسف، ويتُف)، ومع آذان الفجر الذي نعى الليلة الثالثة، حسم أمره، واتخذ قراره، بالعودة للوطن، فالزواج ثم الاستقرار النهائي في بلد الثورة التي تلوح نذر انتصارها في الأفق.
انتظر شروق الشمس، بلا صبر، اغتسل وشرب قهوته على أكثر من عجل حديد، و”لستك محروق”..
وصل مبكراً جداً لمكان عمله حاملاً استقالته غير المسببة، وأقعى-ككلب- أمام مكتب المدير العام، الذي أدهشه وجود صاحبي أمامه في هذا الوقت الباكر، وردد في نفسه؛ خير، اللهم أجعله خيرًا، ثم طلب من صاحبي أن يتفضل.
لم يناقشه مديره كثيراً، فالشركة-وكل الشركات- في حالة عدم استقرار، وكانت تتجه لتخفيض العمالة، بعد الأزمات التي لاحقتها جراء “حرب الديوك”، بين الخليجيين.
أخبر أصحابه بأنه ذاهب للحاق بثورة الحرية والتغيير، وأسكت صوتاً بداخله، يهمس؛” فمن كانت عودته للعمل مع الثورة، فهجرته لله ورسوله، ومن كانت عودته إلى دنيا يصيبها، أو كنداكة يتزوجها، فعودته إلى ما عاد إليه “.
ربط أمتعته وتحزم وتلزّم، ثم عاد إلى بيته، مسلماً على الناس على عجل، ثم طار إلى جمهورية القيادة العامة.
اندغم فيها، هتف مع الهاتفين وغنى مع الراقصين، واستمع للخطباء والمنشدين. وفي اليوم التالي، أقنع أهله بأن يحملوا كبش الكرامة ويهبوه للمعتصمين.
واظب على التوقيع على دفتر الحضور الثوري في أرض الاعتصام الباسلة، مرتدياً البنطال، التي شيرت والصندل، مطلِّقاً-بالتلاتة-الجلابية (التي لم يكن يرتدي غيرها في بلد الغربة، منذ انفصال الجنوب، إذ كان يعتقد أنها لم تمثل “الزي القومي” قبل ذلك) .
شارك في كل الأنشطة، من تنظيم الندوات إلى حمل ألواح الثلج في رمضان، متجاهلاً آلام الظهر والركب التي كانت تزوره من حين لآخر، كان وهو يفعل ذلك “يتاوق”، هنا وهناك، لرؤية أوجه الكنداكات الصبيحة، وابتساماتهن الساحرة، ويرخي أذنيه لأحاديثهن وضحكاتهن العذبة، وهو يمني النفس-طبعاً-بأن تبادله إحداهن وداً بود، وابتساماً بابتسام، في ساحة الاعتصام. لكن ذلك لم يحدث، وحدث -بدلاً عنه-،(ما حدس)، في ليلة غاب فيها عن الساحة، لآلامٍ في ظهره، فآثر النوم على سرير في بيته.

خلف الأمر فيه جراحأ غائرات، وانطوت في القلب ثلاث حسرات: حسرة على الشباب الذي است-شهد وضرب وعذب وسجن، وحسرة على مآل الثورة، وخوف من عدم تحقق أهدافها، وحسرة القلب المستدامة.
استعصم بمنزله لعدة أيام، حزيناً، مكتئباً، قبل أن يضطر للخروج يوماً ما، لشأنٍ ما. وبينما يسيرُ، ولا يغلبه السرورُ، سمع صوتاً ناعماً، يأتي من خلفه،؛ (يا شفّاتي، يا شفّاتي.)، خفقان قلبه، فوّت عليه ملاحظة شاب وجيه يسير أمامه، وسيماً مثل الش-هيد، عبدالسلام كشة،. التفت، بابتسامة أغرقت وجهه وسالت مندلقة على صدره. رأى حسناء-تجتذب العيون،كأنها،في الأرض كوكب-،يافعة،قادمة في اتجاهه، وخيل إليه أنه رآها أيام الاعتصام، فتمتم برقة؛ أنا؟؟؟ ابتسمت الفتاة-بدورها- وقالت؛
– انت شفّاتى يا عمو؟؟
تجاهل (الإهانة)،و ردّ:
– أيوة أنا شفّاتي كبير،
وآثر ألا يبوح ببقية ما خطر بباله، -بسبب كلمة (عمو)-؛ شفّاتي، وبسب ….، وبعمل (السيدة منى) كمان.
أفاق على صوتها؛
– يا عمو ما تبقى كضباشي، زمنكم ما كان فيهو شفاتة.
قالت ذلك-ببساطة-ثم تجاوزته شاخصةً بعينيها الجميلتين نحو الشاب الذي يشبه الشهيد كشة.

لعن في سره كضباشي وحميدتي وتجمع المهنيين، وقوى التغيير، ومحمد ناجى الأصم.

ااااخ يا ركبتي، ثم اتجه-وهو يعرج- نحو أقرب صيدلية…..