في اليوم الذي أعلن فيه مؤشر دافوس لجودة التعليم لعام 2024 خروج السودان من التصنيف العالمي، لم يكن الحديث عن (ترتيبٍ ضعيف)….. بل عن اختفاءٍ كامل من خارطة المعرفة.
إن مؤشر جودة التعليم الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي لا يقيس (المدارس) فقط، بل يقيم المنظومة وفق 12 محورًا تشمل المهارات، البنية التحتية، الابتكار، الكفاءات، ونوعية التعليم العالي. والخروج من التصنيف يعني غياب البيانات الوطنية أو تدهورها إلى حدّ يستحيل معه قياس الجودة وفق المعايير الدولية.
والخروج من التصنيف ليس رقمًا في تقريرٍ دولي — بل إعلانٌ صريح بأن الدولة فقدت قدرتها على إنتاج المستقبل.
السودان اليوم يقف إلى جانب ليبيا واليمن والصومال وسوريا والعراق… دولٍ أنهكتها الح-روب حتى صار التعليم فيها (ترفًا)، لا وظيفة أساسية للدولة.
وهذا السقوط لم يفاجئ أحدًا، لكنه صدم الجميع: فحين يسقط التعليم، تسقط كل القطاعات بصمتٍ لا يسمعه إلا من يقرأ المستقبل.
أولاً: ماذا يعني أن يخرج السودان من التصنيف العالمي؟ يعني ببساطة:
1. غياب النظام التعليمي الموحّد: لا مناهج مستقرة، ولا مدارس آمنة، ولا مؤسسات فاعلة.
2. انهيار رأس المال البشري: وهو الركيزة الأساسية للنمو الاقتصادي.
3. تراجع القدرة التنافسية للدولة لعقود قادمة: لأن الدول لا تبني اقتصادًا على فراغ معرفي.
4. هجرة العقول وتآكل الطبقة الوسطى: ما يفتح الباب لاقتصاد ح-رب وليس اقتصاد إنتاج.
في المقابل، تتصدر قطر والإمارات ولبنان مؤشرات متقدمة عربيًا وعالميًا، ما يعكس فرقًا جوهريًا بين دولٍ تبني للمستقبل ودولٍ تعيش في صدمة حاضرها.
وفي الوقت الذي خرجت فيه ست دول عربية من التصنيف، تتقدم دول أخرى مثل قطر والإمارات ولبنان، مما يعكس اتساع الفجوة في الرؤية التعليمية والإدارة العامة. فبينما تراهن دولٌ على المعرفة كأساس للتنمية، تعجز أخرى حتى عن بقاء النظام التعليمي قائمًا.
ثانيًا: انهيار التعليم… الطريق الأسرع نحو الانهيار الاقتصادي: لم يأت انهيار التعليم في السودان فجأة، بل تراكم عبر عقود من ضعف التمويل، وتسييس المؤسسات، وهجرة الكفاءات، ثم جاءت الح-رب العبثية لتدمر ما تبقى من مدارس وجامعات، وتحوّل العملية التعليمية إلى رفاهية لا تستطيع الدولة توفيرها في ظل اقتصاد ح-رب. لا وجود لاقتصاد قوي من دون تعليم. والسودان — وهو بلد زراعي، معدني، شاسع الموارد — لا يستطيع تحويل أي من هذه الإمكانات إلى ثروة حقيقية دون:
1. مهندسين،
2. معلمين،
3. أطباء،
4. تقنيين،
5. باحثين،
6. وإدارة حديثة.
لكن حين تتوقف الجامعات، ويهجر الأساتذة البلاد، وينشأ جيلٌ بلا مدارس… تصبح الموارد مجرد (غنائم) في ح-رب، لا مشاريع لتنمية. هذا الانهيار التعليمي سيترجم اقتصاديًا إلى:
1. تآكل الإنتاجية.
2. اعتماد كامل على السوق الخارجية.
3. ضعف الدولة أمام الشركات الأجنبية
4. استمرار اقتصاد الح-رب والتهريب.
5. استحالة بناء اقتصاد صناعي أو زراعي متطور.
والأخطر: سيفقد السودان قدرته على التنافس حتى مع دول إفريقية وعربية أقل ثراءً، لكنها تمتلك نظاماً تعليميًا مستقرًا.
إن انهيار التعليم لا ينعكس على الاقتصاد وحده، بل على المجتمع أيضًا. فغياب المدرسة يفتح المجال لتجنيد الأطفال، واتساع الج-ريمة، وتراجع الثقة بالدولة، وانهيار الطبقة الوسطى، التي تعد حامية الاستقرار في كل المجتمعات الحديثة.
ثالثًا: السودان… مرآة لِما لم يفهمه العرب بعد: السودان ليس حالة استثناء، بل حالة إنذار:
دولة بلا تعليم = دولة بلا اقتصاد
ودولة بلا اقتصاد = دولة بلا سيادة
ودولة بلا سيادة = دولة بلا مستقبل
وفي وطن عربي يعاني من اضطرابٍ سياسي واقتصادي، يظهر السودان كصوتٍ صارخ يخبر الأمة العربية كلها بأن: المعركة الحقيقية ليست معركة سلاح… بل معركة وعي وتعليم واقتصاد. وأن كل مشروع قومي أو وطني — سواء حمل اسم العروبة أو الديمقراطية أو التنمية — لا قيمة له ما لم يبدأ من المدرسة والجامعة والمخبر.
رابعًا: مستقبل السودان… يبدأ من التعليم أو لا يبدأ: مهما اختلفت الأطراف السياسية، ومهما تعددت الرؤى حول الحكم والشرعية والجيش والمليشيات… فإن سؤال المستقبل لا يمكن الهروب منه: كيف تنهض دولة خرجت من تصنيف التعليم العالمي؟ الإجابة بسيطة وصعبة في آن:
1. وقف الح-رب دون قيد أو شرط.
2. خطة وطنية لإعادة بناء التعليم خلال عشر سنوات
أ. تدريب المعلمين
ب. بناء المدارس
ت. إصلاح المناهج
ث. ربط التعليم بالتقنية والاقتصاد
3. إعادة الاعتبار للجامعة كمحرك للتنمية
4. تحويل التعليم إلى مشروع قومي لا تنافس سياسي
تحتاج خطة إعادة البناء إلى هيكلة كاملة لوزارة التربية والتعليم، وشراكات دولية مع منظمات الخبرة، وبرنامج وطني لإعادة الأساتذة المهاجرين، وتمويل ثابت لا يقل عن 20% من الموازنة العامة خلال عشر سنوات.
خامسًا: من السودان إلى الأمة العربية… الارتباط المصيري: النهضة العربية لن تُكتب على الورق، بل ستُكتب في المدارس. والأمة العربية — التي تمتلك 60% من احتياطي النفط العالمي — لا تزال خارج نادي المعرفة. وإذا استمرت الح-روب في السودان واليمن وسوريا وليبيا… ستتراجع الأمة العربية كلها إلى ما قبل الدولة الحديثة. إن نهضة السودان ليست شأنًا سودانيًا فقط، بل جزء من مستقبل الأمة كلها. فالسودان هو الامتداد الجنوبي للأمن القومي العربي، وهو خزّان الموارد، وممرُ الحركة، وحديقة الإمكانات الكبرى. وإذا نهض السودان… تنهض معه المنطقة.
وإذا سقط، سيسقط جزءٌ من وعي الأمة العربية بذاتها.
خاتمة: ما الذي تبقى؟ الجواب: تبقى الإرادة. تبقى القدرة على تحويل الكارثة إلى بداية جديدة. فالسودان قادر على النهوض. لكن النهوض لا يبدأ من السياسة…، ولا من التسويات… ولا من التحالفات…، فالنهوض يبدأ من كرامة الإنسان، وكرامة الإنسان تبدأ من المدرسة. وعندما يكتب السودانيون — كما كتب الأوائل — أن التعليم هو معركة المستقبل، سنرى نهضة لا توقفها ح-رب ولا يعجز عنها خراب إن الأمم، التي تنهض من الخراب لا تنهض بالموارد ولا بالاتفاقات السياسية، بل بالمعرفة. وكل نهضة تبدأ من العقل… ومن الفصل الدراسي الأول في أول مدرسة تُعاد بناؤها.

Leave a Reply