غسيل العقول.. حين يتحول الفساد إلى ثقافة؟

صحيفة الهدف

لم يكن فساد المتأسلمين في السودان محصورًا في المال العام أو السلطة المغتصبة، بل في مشروعٍ أعمق وأخطر: مشروع تدمير الوعي الجمعي وإعادة تشكيل الضمير الوطني على مقاس السلطة. فقد أدركت الحركة المتأسلمة منذ بداياتها أن السيطرة الحقيقية لا تتحقق بالقوة وحدها، بل بغسل العقول وتفكيك منظومة القيم التي كانت تحفظ للمجتمع توازنه الأخلاقي والإنساني.
استخدمت الإنقاذ الدين كأداةٍ لتبرير الباطل، فبدّلت دلالات المفاهيم الكبرى. صار التمكين “نصرةً للدين”، والثراء غير المشروع “فتحًا من الله”، والطاعة العمياء”ولاءً شرعيًا”. وهكذا، تحوّل الفساد من جريمة إلى فضيلة، وصار الخداع ذكاءً، والنفاق فطنةً، والنهب اجتهادًا في سبيل المشروع الحضاري. لم تكتفِ السلطة بتزييف الوعي، بل أنشأت مؤسسات إعلامية وتعليمية ودينية مهمتها إعادة إنتاج المواطن وفق منهج الخضوع والانتهازية.
في ظل هذا التشويه المتعمد، ضعفت مناعة المجتمع الأخلاقية، وفقد الناس القدرة على الغضب من القبح. نُزع الحياء من المجال العام، وتآكل الإحساس بالذنب. لم تعد السرقة تُخيف، ولا الكذب يُحرج، ولا التسلّق يُستنكر. بل إن بعض ضحايا المنظومة صاروا يبرّرون جرائمها باسم “الضرورات” و”العيش”، حتى تماهى المظلوم مع ظالمه. تلك هي الجريمة الكبرى التي لا تُقاس بالأرقام، بل بالأرواح التي أُفسدت والضمائر التي صمتت.
ومع ذلك، فإن مواجهة هذا الخراب لا تكون بالنوستالجيا أو الغضب وحده، بل ببناء وعي جديد يعيد ترتيب سلم القيم. فالمعركة القادمة ليست سياسية فقط، بل تربوية وثقافية. الإصلاح يبدأ من المدرسة والمسجد والإعلام، ومن منظمات الشباب والمرأة والقوى الحية في المجتمع، لتستعيد دورها في تنمية الضمير الجمعي وبث قيم النزاهة والصدق والمسؤولية.
إن سقوط نظام لا يعني سقوط فكره، ما لم نسقطه من داخلنا أولًا. فالمجتمعات لا تنهض بالقوانين وحدها، بل بضميرٍ حيٍّ يميز بين الحق والباطل، حتى لو غاب الرقيب. تلك هي بداية التحرر الحقيقي.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.