تقرير: مجدي علي
يعيش السودان اليوم واحدة من أعقد أزماته المعيشية منذ عقود، حيث تتقاطع أزمات اقتصادية وسياسية وإنسانية لتشكّل ضغوطًا هائلة على ملايين الأسر. فقد أدى ارتفاع التضخم، وانهيار الجنيه، وتراجع فرص العمل، وتعطّل الإنتاج الزراعي، إضافة إلى النقص الحاد في المساعدات الإنسانية وتعثر وصولها، إلى جعل الحياة اليومية أقرب إلى صراع من أجل البقاء على الحد الأدنى من الكفاف.
ووفقًا لتقارير البنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي، فإن أكثر من نصف السكان يعانون انعدام الأمن الغذائي، بينما تتآكل المدخرات وتتراجع القدرة الشرائية. الأزمة لا تقف عند حدود الدخل فقط، بل تهدد أيضًا التعليم والصحة والتماسك الاجتماعي.
مؤسسات دولية، بينها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تتوقع نموًا ضعيفًا أو سلبيًا للاقتصاد السوداني نتيجة النزاع المستمر وتراجع الإنتاج. ويوضح الخبير خالد علي أحمد أن الاقتصاد يواجه تصاعدًا سريعًا في الانكماش :انخفاض الإنتاج الزراعي والصناعي أدى إلى تقلص الدخل القومي، مما يفاقم الفقر ويزيد التهميش.
معاناة في أم درمان: سوق ليبيا نموذجًا
أفاد مراسل صحيفة الهدف في أم درمان أن سكان العاصمة الوطنية يعانون من ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الأساسية وتدهور الخدمات، إضافة إلى انتشار العصابات المسلحة التي تعيق حركة السكان وتفرض قيودًا على حياتهم اليومية.
وأوضح أن سوق ليبيا، أحد أكبر أسواق المدينة، تحول إلى بركة كبيرة بفعل الأمطار، ما أدى إلى تلف كثير من البضائع وتعطيل البيع والشراء والمواصلات.
المواطن محمد محمود، من سكان أم بدة، قال لمراسل “الهدف” إن سوق ليبيا هو الملاذ لسكان الأحياء القريبة، ففيه ما يحتاجه الناس من سلع غذائية، وهو الأرخص مقارنة بالمحال داخل الأحياء، كما أنه مركز مواصلات لكرري والخرطوم والريف الجنوبي، لكن عدم وجود تصريف لمياه الأمطار يشير إلى فشل إداري واضح، وبسبب الأمطار ساءت حالة السوق وارتفعت أسعار الخضروات واللحوم إلى أضعاف مضاعفة.
التضخم وانهيار القدرة الشرائية
شهدت الفترة بين 2023 و2025 ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية. وبحسب تقارير Food Security Information Network وSudan Tribune، بلغ التضخم مئات في المئة في بعض الأشهر عام 2024، واستمر عند مستويات مرتفعة خلال 2025، ليصبح الغذاء والطاقة خارج متناول كثير من الأسر.
تقول د. أمل بشير، أستاذة الاقتصاد في جامعة الخرطوم: التضخم أصبح تهديدًا مباشرًا لاستقرار الأسر. سعر كيلو الدقيق أو لتر الوقود اليوم أعلى بكثير مما كان عليه قبل عامين، ما يضغط على ميزانيات الأسر ويجعل العيش الكريم بعيد المنال.
كما وصلت أسعار الاحتياجات الأساسية إلى مستويات صادمة؛ فسعر رغيفة الخبز بلغ 5 آلاف جنيه دون تحديد الوزن، وطلب الفول 3 آلاف جنيه. أما أنبوبة الغاز، التي أصبحت من الكماليات، فبلغت نحو 70 ألف جنيه إن وُجدت. كيلو الضأن وصل إلى 25 ألفًا، والعجالي 18 ألفًا، والسمك 3 آلاف. وحتى شرب الماء البارد أصبح رفاهية بعدما وصل سعر لوح الثلج إلى 9 آلاف جنيه.
وخلال جولة لمراسل “الهدف” في ميدان المولد والأسواق المحلية، رُصدت أسعار قياسية لبعض السلع، إذ تراوح سعر الرطل من حلاوة المولد بين 17 و20 ألف جنيه للمشكل، فيما بلغ سعر الجوزة والهريسة واللكوم بين 30 و40 ألفًا للرطل الواحد.
انهيار الجنيه وتأثيره على الأسواق
واصل الجنيه السوداني تراجعه أمام الدولار، مما رفع كذلك من أسعار السلع المستوردة وأثر على السوق المحلي. وأوضح الخبير الاقتصادي المستقل خالد علي أحمد لـ”الهدف” إن نخفاض قيمة الجنيه لم يؤثر فقط على الاستيراد، بل رفع كذلك أسعار المنتجات المحلية بسبب زيادة تكلفة النقل والمواد الأولية، ما يزيد الضغط على الأسر ويجعل الاعتماد على الدعم الخارجي ضرورة يومية.
الفاضل عزالدين، من سكان ود نوباوي، أفاد بأنه استأجر نصف منزل في محلية كرري بـ400 ألف جنيه بعد أن تهدمت جدرانه وسُرق سقفه. وأضاف: نواجه ارتفاعًا يوميًا في أسعار المواد الغذائية. رطل اللبن يباع بـ 1,500 جنيه، كيلو السكر 3,500، ربع رطل الشاي 2,500، ورطل الزيت 4,000 جنيه. المعيشة لم تعد محتملة، وأصبحنا نتمنى الموت راحة من هذه الحياة وقسوتها. حتى ذهاب الأطفال إلى الدكان والمسجد أصبح محفوفًا بالخوف بسبب العصابات المنتشرة في كل مكان.
الأسعار في صعود متواصل
تشير تقارير مراقبة الأسواق إلى ارتفاع قياسي في أسعار الحبوب الأساسية مثل الذرة والذرة الرفيعة والسُمح. وحتى مع تحسن المواسم الزراعية في بعض المناطق، فإن انكماش العرض التجاري وارتفاع تكاليف النقل وتدهور العملة جعل الحصول على هذه السلع أمرًا بالغ الصعوبة.
وحذر برنامج الغذاء العالمي من أن نحو 24 إلى 25 مليون شخص يواجهون حالة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، مع مخاوف من مجاعات محلية إذا استمر ضعف الدعم الدولي.
وفي شارع الأربعين بأم درمان، سجّل مراسل الهدف أسعارًا مرتفعة: كيلو العدس 3,500 جنيه، دستة البيض 11,000 جنيه، كيلو الجبنة 20,000 جنيه، وكيلو لبن البودرة 23,000 جنيه.
فرص العمل: بطالة متفاقمة
أظهرت مسوح وطنية تراجعًا كبيرًا في فرص العمل النظامية وارتفاعًا غير مسبوق في البطالة، مع نسب تجاوزت 40% في بعض المدن والمناطق الريفية.
وقالت سمية يوسف، منسقة مشروعات في منظمة إغاثة: الأسر لجأت إلى ما يمكن وصفه باقتصاد الطوارئ؛ حيث يعتمد أفرادها على العمل غير الرسمي، وبيع الممتلكات، وتحويل الإنفاق من الصحة والتعليم إلى الغذاء فقط. هذا التحول يهدد الأطفال بسوء التغذية وفقدان التعليم.
الخدمات الأساسية
تضررت البنية التحتية الأساسية بشدة في المدن، خصوصًا في مناطق النزاع، ما جعل الحصول على الرعاية الصحية محدودًا، وشبكات الكهرباء والمياه متقطعة.
وقالت ليلى إبراهيم، موظفة صحية في الخرطوم: نواجه نقصًا دائمًا في الأدوية والمستلزمات الطبية، وأحيانًا لا يجد المرضى أسرة شاغرة في المستشفيات الحكومية، مما يجعل الرعاية الصحية رفاهية وليست حقًا أساسيًا.
التمويل الإنساني وتحديات الوصول
تواجه وكالات الإغاثة الدولية مثل WFP و UNHCR وOCHA تحديات تمويلية كبيرة في 2025، ما أدى إلى تقليص خطط التوزيع وفرض قيود على المستفيدين. وأوضح منسق الطوارئ في OCHA أن عدد المستفيدين من المساعدات يتناقص بينما الحاجة تتزايد، مؤكدًا أن نقص التمويل يعيق قدرة الوكالات على الوصول إلى المناطق الأكثر تضررًا.
الأزمة المعيشية لها أسباب متعددة، غير أن النزاع المسلح المستمر منذ 2023 يبقى العامل الأبرز. فقد أدت هذه الحرب العبثية إلى تعطيل الزراعة ونزوح السكان وتدمير البنية التحتية، فضلًا عن السياسات الاقتصادية الفاشلة التي سبقت الحرب وأسهمت في فقدان السيطرة على السيولة وتراجع قيمة الجنيه. ومع تداخل المصالح الإقليمية والدولية، أدى تراجع تمويل المساعدات والتنافس الجيوسياسي إلى تعقيد الوضع وعرقلة أي فرص للحلول الإنسانية.
آفاق الحلول
يرى حزب البعث العربي الاشتراكي أن جذور الأزمة الاقتصادية لا تعود فقط إلى النزاع المسلح أو التضخم، بل إلى السياسات الاقتصادية الليبرالية السابقة التي ساهمت في تراجع الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الواردات.
وقال عادل خلف الله، الناطق الرسمي باسم الحزب، في تصريح منشور على الموقع الرسمي إن الوضع الاقتصادي الراهن في السودان هو نتاج تراكم سياسات اقتصادية خاطئة على مدى سنوات، مع تهميش الإنتاج الوطني وتسهيل الاعتماد على الواردات. والحل يبدأ باستعادة الدولة لدورها في التخطيط الاقتصادي، ودعم الزراعة والصناعة المحلية، وضبط الأسواق لضمان الأمن الغذائي وتوفير فرص العمل.”
وأضاف أن الحلول تتطلب إصلاح السياسات النقدية لوقف انهيار الجنيه، وإعادة بناء البنية التحتية للكهرباء والمياه والخدمات الصحية، وتفعيل التعاون العربي والإقليمي لدعم الاقتصاد بعيدًا عن القيود الدولية، بما يضمن استقلال القرار الوطني واستدامة التنمية. وتشير رؤية الحزب إلى ضرورة تبني برامج إنتاجية مركزة، وتأميم بعض المؤسسات الحيوية مؤقتًا لضمان عدالة توزيع الموارد، وتحفيز الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة باعتبارهما الطريق الأمثل لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار المتواصل.
الأثر الإنساني: المأساة الأكبر
يبقى الأثر الإنساني هو الوجه الأشد قسوة في هذه الأزمة. سكان أم درمان والخرطوم يعيشون مأساة يومية بسبب فقدان السلع الأساسية أو ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، في ظل غياب الرقابة على الأسواق، وتفاقم انعدام الأمن وانتشار العصابات المسلحة.
انهيار القدرة الشرائية دفع الأسر إلى تقليص وجباتها اليومية، وتأجيل تعليم أبنائها، والتنازل عن الرعاية الصحية. والنتيجة الحتمية: ارتفاع معدلات سوء التغذية بين الأطفال والكبار على حد سواء.
هكذا يقف السودان اليوم على حافة الانهيار المعيشي؛ أزمة تتشابك فيها السياسة بالاقتصاد بالإنسان، فتترك ملايين الأسر في صراع يومي من أجل البقاء. وإذا استمر غياب الحلول الجذرية والتراجع في الدعم الإنساني، فإن الخطر لن يقتصر على الجوع والفقر فقط، بل سيمتد ليهدد بقاء البلد ومستقبل أجياله القادمة

Leave a Reply