ست الودع.. لي كَشكِشي

محمد المرتضى حامد
#ملف_الهدف_الثقافي

بعض النساء مغرمات حدّ الاستحواذ بمعرفة المجهول، المخبوء، الكامن في رحم الغيب، وما يحمله الغد. يشاركهن في ذلك بعض الرجال؛ فإن بعض الرجال إثم، كما قالت إحداهن. وفي التاريخ، رؤساء وملوك وقادة استعانوا بالمنجمين في محاولاتهم كشف الغيب والتخطيط لخطواتهم وحروبهم، ومنهم الإسكندر، وريغان، ودفع الله، وديغول، وكليوباترا الشديدة.. يا حليلا، وحليل أنطونيو.

تفجّرت عن ذلك الاستحواذ عجائب وبلايا مثل “الودِع”، وقصص الفكي، وضارب الرمل (وشوف الخيرة يا رمّالي).. يا سلام عليك يا الطيب عبد الله! ثم قراءة الفنجان، واستفتاء الوسطاء الروحيين، والسحرة، والمشعوذين، ومفسري الأحلام. بل وصل الحال ببعضهم إلى ربط مصائر دول وشعوب كاملة برؤى المنام، كأنما يقول: “إني رأيت في المنام أني أعصر شعبًا وأنثره على الأطلس حتى يغدو فتلة في الرياح وثرثرة في الصخب”.. وحتى لو غنّت له الكواكب، أترك الأحلام يا سغيل واصحى.

هل جرّبتم قراءة الكف؟ تُمسك القارئة بكفك، تمرر سبابتها على أخاديد راحتك، وخطوط العمر، والحظ، و(اللهفة والشوق والعذاب)، ثم تقول لك بابتسامة ٤٠ واط: “عمرك طويل”، دون أن تُكمل: “مع شقى الأيام وميل الحال”.. وحتى لعبة “الويجا Ouija” الخطيرة، جرّبها البعض في صباهم محاولين استشراف الغيب.

قريب من ذلك ما يُعرف بـ”الختّاتة”، وهي امرأة تدّعي معرفة مصائر الأشياء (Seer)، ومواقع تواجدها، لا سيما الضائع والمسروق. بل تدل أحيانًا على الجاني نفسه! وسمعت أن كثيرًا من الحالات قد صدقت فيها تلك الختّاتات، بل إن الجناة اعترفوا ودلّوا على أماكن المسروقات. وطبعًا هذا يفتح باب الحديث عن استعانة البعض بالجن (السفلي). ولهم في الغرب ما يشبه هذا، مثل قصة الفرنسي “جان شارل غيليه” الذي كان يعرف الناس إذا لمس أو شمّ شيئًا يخصهم. صحي جان! ليتنا نجد ذلك “الشمّام” ليكشف لنا حقيقة “البطيخ”!

جان آخر ورد اسمه في كتاب راجي عنايت “٣٠ ظاهرة خارقة حيّرت العلماء”، ويمكن الاستماع للكتاب في يوتيوب، خاصة قصة دعاء خليفة المهدي على كتشنر. هذا الرجل كان يُطلب منه أن يلمس شيئًا يخص المشتبه به أو الضحية، فينطلق بمعلومات دقيقة، كأنه يبث الجريمة في بث حي! ثم تفاجئ السلطات الأمنية الجاني المطمئن العامل شفت، ويأخذ كف كرف في الشناكل.

أها، (الودّاعيات) عندهن فنون وإخراج هوليودي إبداعي. يعرفن الكثير. طبعًا، البلد ما فيها سر. وغالبًا ما تكون “الحاجات” مشتركة بين أهل المنطقة والوسط الاجتماعي، فتُطبخ المعلومات العامة ببهارات خاصة، ويضاف الشمار الأصلي الذي تُشمّ رائحته من أول بيت في الحِلّة، ثم “تكشكش” الودِع وتكشحو فتخرج بميلودراما درجة الإقناع فيها ٥٠٪ (فيفتي فيفتي)، أو كما قالوا.

“التومة”، الوداعية العتيقة، زولة بسيطة، أمية، ظريفة، تتمتع بذكاء اجتماعي ولسان إنزلاقي، ولا تكتفي بخدمة نطاق جغرافي يتيم، بل تتنقل بين الأحياء، وهي أحرَف من الـGPS في العناوين، ولا تقل مهنية عن الـKGB في جمع المعلومات. تعمل “الهومويرك” كما ينبغي، وقد تكون الآن طوّرت ذكاءً صناعيًا خاصًا بها. صارت لصيقة بـ”الهوانم” اللائي يحلم أزواجهن بوزارات، فتؤول تموضع “ودعة” خلف كوم الودع، وأخرى أمامه، بأنه “موكب سيارات وخلفه موتر وأمامه سارينا”! فتفرح الهانم ويأتي جك العصير البارد، ثم الجبنة ومعها إضافة مالية للبياض (شحن رصيد). التومة “هوك”، كعداد الجمرة الخبيثة!

التومة تعرف تمامًا ما تهفو إليه القلوب. تقرأ لغة الجسد في لمح البصر، كالماسح الضوئي، وتملك فراسة تعينها على إرضاء المستمعين. تبحر بمهارة بين القلوب المرجانية، لتتفادى نبوءة مغلوطة تُلحقها بالتايتنك وغنم زهرا! “ناقشة الزينة بت اللزينا”، وتقدّم تقريرها الرمادي الذي يتأرجح بين الأمل والألم، مع Disclaimer مُبطّن: “العفش على مسؤولية الودِع”.

المُرهف حسن الزبير، مبدع “درّسني بس قانون هواك بحفظ حروفه حرِف حرِف”، التقط هذه الظاهرة، فاللواتي بلغن سن الزواج ينتظرن وأمهاتهن إجابة من الوداعية. يا للفرحة إن التصقت ودعتان مطرِّفتان ببعض! دا تأويله واضح: “عقِد بس”، وطوالي الفاتحة يوم التعارف، وتخرج الوداعية بوعد بثوب “توتال” يوم الزفاف، مع دفعة مقدّمة.. بلا لساتك، بلا بندقية، المجد للغَمِت.

رسم حسن الزبير لوحة لست الودع، وجلس أحدهم أمامها، قلبه وجِل، يحاول التماسك:
“هاك وشوشي.. لي كَشكشي..
ما تختشي، قوليهو لي، كان فيهو شي.. أي شي..”
وبالكتف كمان، ثقة مبالغة، مش؟
لكنه يردد في سره: “وأنا راضي بالصاقعة”.

القاسم المشترك عادة هو الزواج، والحب، وما قد ينتهي إليه الأمر من قبول أو “شاكوش” مدمر، داخلي (جيران وأقارب) أو بعيد المدى (عابر القارات) كالصاروخ الروسي Satan-2، الموجّه نحو المساكين الطيبين الذين يتوهمون في أنفسهم كفاءة كذوب. فيتقدّم أحدهم لطلب يد من تفصله عنها المسافة بين عطارد وبلوتو، والنتيجة معروفة. فوصف الشاعر إفادة الوداعية لذلك “المتشوبر” الذي كسحت له الودع فقالت:
“الزول الجميل يا سيد أبوك..
خطبوه لي زول ود قبايل ود ملوك..
لمّلِم عزالك، ما يحرجوك..”
حليلنا في الزايلي.

الفنان الموهوب، والـ Performer المعروف عبد الله البعيو، اشتهر بأدائه الراقص المرِح، حتى وهو يذوب وجداً في أغنيات مثل “الفريد في عصرك”، التي قلب فيها القاعدة القانونية فغنى: “إن نكرتو هواي، وريني إيه برهانك”. أجاد البعيو في أدائه “ست الودع”، حتى تتجسد أمامك حين قال:
“كَشكَشت الودع لي حداي..
وقالت لي يا جناي..
أريتو فالك فال عدوك.. دا كلام كبير، ما زدتو شي..”

تأويل التومة: الصاروخ الباليستي في طريقه إليك يا مغرود! وغالبًا قد سمعت “تحت تحت” أن فلانة سيتقدم لها عريس لا يُرد، وأن زولنا المتوسل بين يديها يواجه كرتا أحمرًا. فتقطّب جبينها، وتعيد كشح الودع:
“الودعتين الشاحبات ديل حمّدو..
الإتوشوشو، جو يكلمو..”
ثم تعلن: “دا كلام كبير، ما زدتو شي..”

يرفض صاحبنا التأويل، ويطلب الرجوع لـVAR، فتخرج النتيجة: الطرد.. بسبب الحب، سهوا. وتختم التومة بعبارتها الثابتة:
“المكتوب فوق الجبين.. ما بينمحي.”
لي كَشكشي…
(حتى لو اعتذرت الرياح، سيبقى الغصن مكسورًا).

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.