د.عصام علي
ط.ق.. ط.ق.. ط.ق.
ـ مريومة.. مريومة! ـ منو؟ ـ أنا أحمد. ـ وآخِر الليل دا عايز شنو؟ ـ قزازة.. بالله تكون قوية.
لم تمضِ لحظات حتى سمع جرجرة خطواتها فوق تراب الحوش، تتثاقل نحو السور الجالوصي الذي أنهكه الخريف وعرّته الأمطار. ناولته الزجاجة مقابل النقود، ثم أغلقت نافذتها، بينما دسّ هو قنينته في صدره واندفع نحو ضفة النيل.
على الرمل البارد جلس، والليل ساكنٌ إلا من نقيق الضفادع وشقشقة عصافيرٍ ساهرة، وهمس الموج وهو يلامس الشاطئ في انكسار متتابع يشبه تنهّدات بشر. رفع الزجاجة إلى فمه وأخذ جرعات متلاحقة من عصير البلح المخمّر، ثم زفر بعمق، كمن يريد أن يفرغ صدره من أثقال الليل.
انسلت صورة سامية إلى ذهنه؛ سامية الحسناء، الفارعة، جارة الحي التي كان اسمها وحده كفيلًا بإيقاظ قلبه من سباته. تذكّر ضحكتها التي كانت تنفجر من صدرها فيندفع جسدها إلى الوراء، وكأن السماء تجذبها إليها، وتذكّر تلك النكتة التي قالها مرة، فضحكت حتى ارتجف كتفاها وارتفع صدرها كجناحي طائر يستعد للطيران. وتذكّر كلماتها التي كانت تتسلل إلى قلبه بطمأنينة اليقين:
ـ عارفة يا سامية أنا بحبك قدر شنو؟ ـ حبنا عميق يا أحمد. وصدقني ما في قوة في الدنيا تقدر تفرّق بيناتنا. ـ سنة ولا سنتين وبنتوّج حبنا برباط مقدّس.. ـ سنة شنو وسنتين شنو؟ أنا مستعدة أنتظرك العمر كلو..
فتح علبة السجائر، أشعل واحدة، وابتلع ما تبقى من العرقي دفعة واحدة، ثم رمى بالزجاجة في جوف النيل، فصدر عنها صوت مكتوم يشبه سقوط وعدٍ قديم. نهض وهو يترنّح، خطوتان للأمام وواحدة للخلف، يتمايل مثل غصن ضعيف في مهب الريح.
عبر الأزقة المظلمة وسط نباح الكلاب حتى بلغ أول الحي، وهناك وقف أمام سرادق كبير يبتلع الشارع بأنواره الساطعة، اقترب من الصيوان ومن ثقب صغير تفرّس الوجوه.. ثم لمحها.
سامية، بثوب أبيض ناصع، كأنها طائر فينيق عاد لينهض من رماده. البسمات تتوهج على شفتيها، والرضا يغمر وجهها، وهي تتهادى قرب عريسها المغترب القادم من بلاد النفط. تدافعت أنغام الجابري من مكبّر الصوت: “باعوا للأيام مواهبي.. باعوها بأبخس تمن“
وهناك، شيء ما انفجر بداخله. غلى الدم في عروقه، وتفاعل الكحول مع الخذلان فصار خليطًا قاتلًا. هجم نحو ساحة الرقص كرياح عاتية، وسحب نصلًا كان يخبئه في جيبه. ط.عن.. ثم ط.عن.. ثم ط.عن، وهو يصرخ بأعلى صوته:
ـ أنا أخوك يا فاطنة! أحمد اتباع بأبخس تمن! أنا أخوك يا فاطنة..!
سقط طائر الفينيق مضرجًا بدمه. تلاشت الأنوار، خمد الغناء، انطفأت الزغاريد، ولم يبقَ إلا صراخ النساء وارتجاج الفجيعة في الهواء. وأحمد واقفٌ وسط العاصفة، يلوّح بالنصل الملطّخ ويصرخ:
ـ أنا أخوك يا فاطنة.. أحمد اتباع.. أنا.. أنا..
-
#عرقي_غدار
-
#د_عصام_علي
-
#قصة_قصيرة
-
#الخذلان_والطبقات
-
#ملف_الهدف_الثقافي
-
#جريمة_القلب
-
#الأدب_السوداني_المعاصر

Leave a Reply