في أسباب إعاقة الفكر الاقتصادي العربي

صحيفة الهدف

د. يوسف مكي
#ملف_الهدف_الاقتصادي

يهتم الاقتصاد بدراسة كيفية إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها. ولأن تحقيق ذلك أمر صعب، كونه يتطلب وجود الموارد الطبيعية ورأس المال واليد العاملة والخبرة، أنيط أمر صياغة السياسات الاقتصادية بالحكومات، باعتبارها الأقدر على رسم خطط تنمية وحماية الاقتصاد وصيانته. ومن هنا تأتي العلاقة الجدلية بين الاقتصاد والتنمية، فلا اقتصاد قوي قادر على الصمود والتنافس مع غيره من الاقتصادات من دون تنمية حقيقية.

مضت سبعة عقود منذ بدأت مرحلة الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي. وكان الفكر العربي حاضرًا بقوة منذ بدأ عصر التنوير، فقد بشر هذا الفكر أثناء مرحلة الكفاح الوطني بالحرية والكرامة، وبالوحدة ودولة العدل والقانون وبالتنمية الاقتصادية. وحفلت الأدبيات العربية بالدعوة للتصنيع والبناء واللحاق بالثورات الصناعية العالمية.

لكن اندفاع الفكر الاقتصادي العربي توقف تقريبًا منذ مطالع التسعينيات بعد سقوط الكتلة الاشتراكية وتفرد قطب واحد على صناعة القرار في المؤسسات الدولية، وبروز الحديث عن “نهاية التاريخ”.

وليس تجاوزًا القول بأن ما حدث في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي كان صدمة لم يتحسب لها المفكرون في العالم بأسره، ولا يستثنى من ذلك علماء الاقتصاد. ولم يكن الفكر الاقتصادي العربي استثناءً في ذلك، خاصة وأن هذا الفكر لم يكن مستقلًا بذاته، بل كان تابعًا ومنقسمًا تبعًا للانقسامات التي شهدها العالم في تلك الحقبة، وهو ما غاب عنه روح الخلق والإبداع وتوطين الفكر، وقد حال ذلك دون صياغة رؤية نظرية لتنمية عربية حقيقية وشاملة. كما كان ذلك نتيجة عجز بعض الأقطار العربية عن مواكبة الثورات التي حصلت في مجال العلم والمعرفة والتقنية، وبشكل خاص الثورة الرقمية، والتي غيرت شكل وأنماط الاقتصاد. إن ذلك يقتضي إعادة النظر في كثير من المسلمات والمفاهيم وتركيبها وفق ما يشهده العالم من تطورات علمية هائلة، ومن تغير في علاقات الإنتاج ومصادر الثروة وغلبة اقتصاد المعرفة في السنوات الأخيرة.

في السنوات الأخيرة تطورت الاقتصادات العالمية بوتيرة ليس لها سابقة في التاريخ، لكنها حفرت فجوة بين ما تسمح به طاقة هذا التطور وبين ما يتحقق منه على أرض الواقع. فمستوى المعارف العلمية والتقنية الراهنة لم يسمح بتضييق الفجوة بين الغنى والفقر، ولم يسهم في الوصول إلى أهداف التنمية بشكل متوازن.

وقد أدت هجرة الأدمغة إلى إلحاق ضرر كبير باقتصادات الأقطار العربية، فبالإضافة إلى أنها حرمت تلك الأقطار من كفاءاتها، تسببت في خسائر ومشكلات اقتصادية في البلدان التي هاجرت منها، يأتي في مقدمتها التكلفة الحضارية التي تكبدتها الثروة القومية والتي هي ملكية عامة للمجتمع. ومما لا شك فيه أن فقدان التنسيق بين البلدان العربية وغياب التخطيط القومي والبيئة الأكاديمية الإبداعية، من الأسباب الرئيسية لهروب تلك الكفاءات.

ألقى هذا الواقع الصعب بثقله على الفكر العربي بشكل عام، والفكر الاقتصادي بشكل خاص، حيث ظل أسير هذا الواقع وتجاذباته، مكتفيًا بتوصيف الوضع كما هو، من غير تقديم قراءات تحليلية عميقة له، مع افتقار شديد للمعالجات النظرية للاختناقات التي يعاني منها الاقتصاد العربي، معالجات تفصل بين السياسي والاقتصادي، وتقدم حلولًا عملية للخلل في العلاقات العربية-العربية، بما يخدم مشروع التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، والذي هو شرط نجاح أي تنمية حقيقية في منطقتنا.

فمقص التجزئة الذي لعب دورًا سلبيًا في تقسيم بلاد الشام، أدى إلى أن يكون موقف حركة اليقظة من الدولة الوطنية موقفًا عدائيًا. ومنذ الاحتلال البريطاني – الفرنسي للمشرق العربي بعد الحرب الكونية الأولى، أصبح العداء العروبي موجّهًا للدولة الوطنية وغدت التجزئة من المنظور القومي سببًا لكل الأمراض التي تحيق بالواقع العربي.

وكان لذلك تأثير مباشر في إعاقة نشوء فكر اقتصادي عربي ينطلق من الاعتبارات الوطنية المحضة، دون التنبه إلى أن مقص التجزئة لم يشمل بشكل واضح وجلي سوى المشرق العربي. فقد بقيت الدولة الوطنية في مصر والجزائر وتونس قائمة كما كانت عليه لآلاف السنين، ولم يمسها مقص المستعمر.

وكان بالإمكان أن تنطلق الرؤية القومية في مشروعها الحضاري من الدولة الوطنية إلى الحالة الأعلى، بدل القفز على الواقع الموضوعي. إن الحركة القومية، بطرحها هذا، أعفت ذاتها من معالجة القضايا الوطنية وخلق الجسد الصحيح الذي هو الشرط اللازم للتفاعل والتكامل الاقتصادي والتنسيق بين البلدان العربية، كمقدمة لازمة لقيام وحدة عربية بين أجزاء صحيحة، وقادرة على الدفع بقوة وجسارة بمشروع النهضة العربية.

#فكر_اقتصادي #الاقتصاد_العربي #التنمية_العربية #هجرة_الأدمغة #التكامل_الاقتصادي #ملف_الهدف_الاقتصادي #النهضة_العربية #التحديات_الاقتصادية #السياسة_والاقتصاد #الاقتصاد_والتنمية #الوحدة_العربية

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.