
د. ستنا بشير
إن جريمة اعتداء من يدّعي أنه معلم تربية إسلامية على تلميذته، الطفلة التي لا تتعدى عامها السادس، بمدرسة خاصة في الأبيض، تضعنا جميعًا أمام مسؤوليات جسام؛ فما شجع الجاني على ارتكاب فعلته الشنيعة سوى يقينه بأنه لن يُعاقب عليها! فهو شيخ ومستنفر، وغالبًا ما يظن أنه فوق القانون، وأن على أسرة الضحية أن تتكتم على الجريمة. وكم من جانٍ قبله فعل ما أراد وأفلت من يد العدالة.
قصص لا حصر لها عن شيوخ خلاوي استغلوا طلابهم، وتعامل معهم القانون بخفة، وأطلق سراحهم ليعودوا ويعيثوا فسادًا في الأرض، محميين بسياج من التدين الزائف، هو في الواقع مجرد غطاء لذئاب بشرية تدثرت باللحى. وغيرها الكثير من حوادث الاعتداء على الأطفال من قبل عناصر من الوسط الذي يعيشون فيه، مثل سيد الدكان، أو أحد أفراد الأسرة الممتدة، وغيرهم، ولم يُعاقبوا كما يجب.
لذلك انتشرت التحذيرات، حينها، للأمهات بعدم السماح للأطفال باللعب بعيدًا عن أعينهن، وتجنب إرسالهم إلى الدكان، وإن اضطروا للذهاب، تنبيههم للإسراع بالعودة، وتفقدهم بشكل مستمر خلال اليوم، ورفع وعيهم حول التعامل مع الآخرين دون استثناء. وهو أمر مرهق ومبعث قلق مستمر. كم من القلق والخوف يجب أن تعيشه الأمهات في السودان؟
ولو أن واحدًا فقط من المعتدين على الأطفال تم التعامل معه بالصرامة والشدة اللازمتين، لما انتشرت مثل هذه الجرائم في مجتمعنا.
ساهم الإنترنت والأجهزة الذكية وسهولة الحصول على المحتوى في تحسين جودة حياة الناس، لكنه ساهم أيضًا في انتشار كثير من الظواهر السلبية في المجتمعات. وفي مجتمعنا السوداني ازداد الوضع سوءًا بعد أكثر من ستة وثلاثين عامًا من حكم المتأسلمين، الذي اتسم بانتشار الفساد والإفساد والتدين الشكلي وتراجع المنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمع. قانونيًا، اتسم بإفلات الجناة من العقاب طالما هم من أهل السلطة أو لهم علاقات بمسؤولين نافذين.
وإن كان رب الدار بالدف ضاربًا، فشيمة أهل البيت كلهم الرقص. فوجد ضعاف النفوس والانتهازيون ضالتهم في هذه الأجواء، وأصبحت المفاسد والانحرافات والجهر بها منتشرة.
والآن، بعد نحو عامين ونصف من حرب 15 أبريل 2023، وتاريخ طويل من الحروب في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، ومن الدمار الممنهج للدولة والمجتمع، واستخدام الاغتصاب الممنهج كسلاح في الحروب، الخوف أن تتحول الانتهاكات إلى مجرد إحصائية تسجل يوميًا لكثرتها وتكرارها. رغم أن الحكمة تقول إن ما هو أسوأ من الموت والانتهاكات والاعتداءات، هو التطبيع معها!
فتصبح مجرد أخبار نسمعها فلا تثير الرعب ولا الحزن ولا الغضب في النفوس.
وأصبحت ثقافة الحرب وأدبياتها هي السائدة في المجتمع اليوم، وانقسم الناس ما بين (البلبسة) و(الجغم)، واحتلت ثقافة العنف مكان ثقافة الأمن والسلام والمحبة والتآخي. وتبدلت حتى ألعاب الأطفال ومصطلحاتهم اليومية وطريقة تعاملهم مع بعضهم البعض ومع مجتمعاتهم. وقطاع كبير منهم انخرط في القتال بشكل عملي، وفقدوا براءة الطفولة، كما فقدوا إنسانيتهم وربما حياتهم. ومن نجا منهم عاد وهو مسخ مشوّه نفسيًا، لا يشبه من هم في سنه، وتبدلت نظرته لنفسه ولأسرته ولمجتمعه، نتاج ما عايشه من تجارب، وغالبًا ما يعود بمشاكل نفسية وسلوكية تتطلب التدخل الاحترافي.
وما حادثة الحصاحيصا ببعيدة، حيث تكشفت جريمة اعتداء عناصر من مقاتلين بالحصاحيصا على عدد من الأطفال المجندين، التي خرجت للعلن ربما بسبب قرابة أحد النافذين ببعض الضحايا. وهذا ما ظهر، وما خفي أعظم.
وهو قليل من كثير مما حذر منه دعاة وقف الحرب، ومن قانونيين وأخصائيين نفسيين واجتماعيين، وغيرهم من المهتمين، من تبعات وتعقيدات شروع القوات المتقاتلة في تجنيد الأطفال. ولا ننسى عبارة: (قالوا عاوزين من كل بيت راجل)!
كما شجع وزير التربية والتعليم على تجنيد الأطفال حين أعلن عن امتيازات خاصة بالطلبة المجندين وأسرهم.
لحماية أطفالنا، نحتاج أن تتضافر جهود المهتمين والفاعلين في مجال حماية الطفل والمجتمع، وتوفير مساعدة طبية ونفسية لتأهيل الضحايا وأسرهم، ورفع الوعي المجتمعي، وضرورة التبليغ عن الاعتداء في أسرع وقت، وفضح الجاني دون خوف من تهديد أو وصمة اجتماعية. كما نحتاج إلى عدد من الإجراءات الأخرى، من ضمنها القوانين الرادعة وتشديد العقوبات والتنفيذ الفوري.
ولكن تظل العدالة عرجاء في ظل سلطات تحمي الجناة وتساعد على الإفلات من العقاب. وتوفر الحرب بيئة خصبة لانتشار الفوضى والجرائم ودغمسة الحقائق. إن الحرب كلها شر، وفضح دعاتها وأهدافهم من إشعالها واستمرارها واجب، والدعوة إلى وقفها، والضغط على طرفيها للاستجابة لدعوات السلام، ووضع البلاد على درب استعادة عافيتها، بسيادة القانون، والمواطنة المتساوية، واستعادة نزاهة المؤسسات العدلية والقانونية، وتمكين المجتمع المدني من أداء دوره.
#العدالة_للطفلة
#طفلة_الأبيض
#احموا_أطفالنا
#جرائم_ضد_الأطفال
#العدالة_للضحايا
#حماية_الطفولة
#ملف_المرأة_والمجتمع
#الهدف_صحيفة
#السودان
Leave a Reply