
م. عبد المنعم مختار
في التاريخ السياسي الحديث لا تحتاج إلى مسدس كي تنتحر: هناك من يطلق الرصاص على نفسه بالوعود الكاذبة، ومن يشنق مستقبله بخطاب شعبوي طويل الحبال، وآخرون يبتلعون السمّ المعنوي حين يكتشفون أن الجماهير التي صفقت لهم بالأمس صارت تضحك عليهم اليوم. الانتحار عند القادة لا يكون دائمًا جسديًا، بل قد يأتي في شكل انتحار معنوي على شاشات التلفاز، أو في مؤتمرات صحفية، أو حتى في “تويتر” حين تغرد الكلمة الخطأ.
ولأن التاريخ لا يرحم؛ فقد شهدنا انتحارات شهيرة لزعماء لم ينقذهم لا الحرس الخاص ولا الأوسمة الثقيلة على صدورهم. هتلر، مثلا، أنهى حياته في قبو ببرلين بعدما اكتشف أن خطبته النارية لا توقف دبابات الحلفاء. موسوليني عُلِّق رأسًا على عقب في ساحة ميلانو، في مشهد أقرب إلى الانتحار العلني لجثة متغطرس. حتى ريتشارد نيكسون، الرجل الذي أراد أن يكون سيد العالم، لم يجد سوى أن ينتحر سياسيًا بفضيحة “ووترغيت” قبل أن يطرده الكونغرس. هؤلاء جميعًا انتحروا بدرجات متفاوتة: جسديًا أو معنويًا، لكن النتيجة واحدة: السقوط المدوي.
والآن… إلى نسختنا المحلية من هذا المسرح التراجيدي: الجنرال عبد الفتاح البرهان. منذ لقاء عنتبي مع نتنياهو في طريق تطبيعه مع العدو الصهيوني ومن ثم انقلابه في 25 أكتوبر، حين قرر أن يذبح الانتقال الديمقراطي بسكين الصباح الباكر،
وقبلها ما لا يحصي من المشاركة في القتل والسحل والدهس بالسيارات ورمي الجثث مصفدة بالصخور في النيل وغيرها مما يندي له الجبين في دارفور وماخفي أعظم، برهان كتب بنفسه الوصية الأولى لانتحاره السياسي بأوضح عنوان بإشعال حرب 15 أبريل مع شريكه اللدود حميدتي لتُكمِل فصول المأساة: بلد يتمزق، ملايين نازحين، دماء في الشوارع، وجيش يتبختر بلا نصر. أي انتحار أعظم من أن يحوّل قائد جيشه إلى ميليشيا عاجزة عن حماية العاصمة، وأن يوزع الوهم على أنصاره كما يوزع بائعو الأعشاب زجاجات “العلاج السحري”؟
البرهان اليوم لا يحتاج إلى رصاصة في رأسه؛ فقد أطلق على نفسه عشرات الرصاصات السياسية: كل بيان متناقض هو طلقة، وكل خطاب متلعثم هو خنجر، وكل صورة مع “أنصار مؤقتين” هي حبل مشنقة جديد. أما زمرته من المنتفعين، فهم يمارسون الانتحار يوميا؛ يضحّون بسمعة السودان من أجل بقاء جنرال فقد البوصلة، فيتحولون إلى شهود زور على جريمة لا تغتفر.
الطريف في مأساة البرهان أن نهايته لا تحتاج إلى دبابة تقتحم القصر، بل يكفيه أن ينظر في وجوه النازحين، أو يقرأ لافتات الأطفال الجوعى،أو يسمع شكاوي اللاجئين.. إلخ، ليفهم أن انتحاره اكتمل منذ أن قرر خيانة شعبه. لكن كالعادة، الجنرالات يتأخرون في إعلان الوفاة السياسية، فيظنون أنفسهم أحياء فيما التاريخ يكتب نعيهم سطرًا بعد سطر.
فليطمئن أنصاره إذًا: قائدهم لم يُقتل بعد، لكنه “منتحر حيّ” يسير على قدمين.
Leave a Reply