
.
أ. أبو بكر ضياء الدين أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
مقدمة: في لحظة تاريخية تشهد انكساراً غير مسبوق في النسيج الاجتماعي السوداني، حيث تحول الاختلاف من ثراء إلى نقمة، ومن نعمة إلى لعنة، تأتي هذه السلسلة محاولةً جادة لإعادة تعريف العلاقة بين الذات والآخر، بين الفرد والجماعة، بين الحرية والانتماء.
ليست هذه السلسلة مجرد مجموعة نصائح أخلاقية، بل هي مشروعٌ فكريٌّ يعيد بناء العقد الاجتماعي من جذوره. إنها محاولةٌ لفهم لماذا فشلنا في تحويل تنوعنا من مصدر قوة إلى مصدر ضعف، ولماذا تحولت اختلافاتنا الطبيعية إلى صراعات وجودية. هذه القواعد، التي تُدرَّس في المدارس الألمانية، تضم خمسين قاعدة حول فنّ قبول الاختلاف والتعايش الإيجابي بين البشر. لقد أخذنا منها ما يتماشى وينسجم مع واقعنا وهي قواعد تمثّل دليلاً عملياً لا بد من استحضاره والوعي به كلما دخلنا في نقاش أو حوار.
ننطلق في هذه السلسلة من قناعة عميقة بأن الاختلاف ليس عيباً يجب إصلاحه، بل هو قانون كوني وسنة إلهية تحكم الوجود. فكما أن الطبيعة تقوم على الثنائيات المتكاملة: الليل والنهار، الذكر والأنثى، الأرض والسماء، كذلك المجتمع الإنساني يقوم على التنوع والتعدد.
السودان، بتركيبته الاجتماعية الفريدة، يمثل لوحةً فسيفسائيةً نادرةً تجمع ألواناً متعددة: عربية وأفريقية، إسلامية ومسيحية، بدوية وحضرية. لكن هذه اللوحة الجميلة كادت تتحطم لأننا أردنا أن نجعل كل لون مثل الآخر، بدلاً من أن نستمتع بتناغم الألوان المختلفة.
في هذه السلسلة، سنغوص في أعماق النفس البشرية لنفهم لماذا نخاف من المختلف، ولماذا نميل إلى محاصرة أنفسنا بأشباهنا. سننتقل من ثقافة القطيع إلى ثقافة السرب، حيث يطير المختلفون معاً في تناغم بديع نحو هدف مشترك. سنستبعد الأفكار النمطية التي جعلت من الاختلاف تهديداً للهوية، ومن التنوع خطراً على الوحدة. وسنقدم بديلاً، هويةً جامعةً تستوعب التنوع لا تلغيه، ووحدةً قائمةً على التكامل لا على التطابق.
هذه السلسلة ليست للقراءة فقط، بل للتطبيق. إنها دعوةٌ لثورةٍ فكريةٍ وأخلاقية تبدأ من الفرد وتنتهي بالمجتمع، تبدأ بالوعي وتنتهي بالسلوك، تبدأ بالقناعة وتنتهي بالممارسة.
نحن على حافة الهاوية، لكننا أيضاً على أعتاب فرصة تاريخية لبناء سودان جديد، سودان يتسع للجميع، وسودان يعترف بالاختلاف ويحترمه، وسودان يكون فيه المختلفون شركاء لا أعداء.
فإما أن نتعلم فن الاختلاف، وإما أن ننكسر جميعاً تحت وطأة الصراع.
هذه السلسلة محاولةٌ لبناء جسور بيننا، قبل أن يتحول الاختلاف إلى هوةٍ لا تجسر.
أسس التعايش: لماذا الاختلاف ليس لعنة؟ (1)
مقدمة: في ضرورة الاختلاف:
ليس الاختلافُ انكسارًا في جدار الحقيقة، بل هو نوافذُ متعددةٌ تطلُّ على وجهها الكليّ. فالحقيقةُ ـ كالنهر الخالد ـ لا يمكن أن تُحَجْر في مجرى واحد، بل تتسع لروافدَ شتى تزيدها عمقًا وجمالاً. في هذه المقالة، نسبر أغوارَ الاختلاف لنكتشف أنه ليس لعنةً حلّت بالسودان، بل هو ثراءٌ كامنٌ لم يُحسن استثماره بعد.
1. الاختلاف: سنة كونية لا انفكاك منها تقول القاعدةَ:(الاختلاف شيء طبيعي في الحياة) فهي ليست مجرد عبارة تطمينية، بل هي قانونٌ كونيٌّ يحكم الوجود. فلو شاء اللهُ لجعل الناسَ أمةً واحدةً، لكنه خلقهم مختلفين ليتعارفوا. حتى الطبيعةُ نفسها تقوم على الثنائيات: الليل والنهار، الذكر والأنثى، الأرض والسماء. فلماذا نرفض في اجتماعنا ما قبلته الفطرةُ في كوننا؟
وتؤكد ذلك القاعدةُ التي تنص على أن 🙁 يستحيل أن ترى بزاوية 360)، فالإنسانُ كائنٌ محدودُ الإدراك، مقيدٌ بزاوية رؤيته، محكومٌ بتجاربه وبيئته. فحقيقةُ الشيء لا تدركها كليًا إلا إذا جمعتِ النظراتِ الجزئيةَ كلها. فاختلافُنا، إذًا، ليس نقصًا، بل هو شرطٌ لإكمال صورة الحقيقة.
2. نقد وهم (الرأي الواحد): (الاستبداد والانقسام): هنا تعلو القاعدةُ صائحة بأن (لو أن الناس بفكر واحد لقتل الإبداع) لقد دفع السودانُ ثمناً باهظاً لوهم (الرأي الواحد) و(الكلمة الواحدة). فكل نظامٍ حكمَ حاولَ أن يصبَّ المجتمعَ في قالبٍ أيديولوجيٍّ واحد، فأنتجَ استبداداً سياسيًا، وتهميشًا لمناطقَ بأكملها، وأخيرًا انقسامًا مريعًا. لم يكن الاختلافُ هو الذي مزّق السودان، بل كان رفضُ الاختلاف هو الجاني الحقيقي. فحين يُحظر على الإنسان أن يكون مختلفًا، يتحول الاختلافُ من حوارٍ بناء إلى انفجارٍ مدمر.
3. الاختلاف لا يفسد للود قضية: من الثنائية إلى الوحدة: تقدم القاعدتان التاليتان حلاً جذريًا: ( ليس شرطاً أن تقتنع بما أقتنع به) و(ليس من الضرورة أن ترى ما أرى)، فهذا الفصلُ بين (الرأي) و(الود) هو أساسُ التعايش. يمكنني أن أحبك وأحترمك كإنسانٍ دون أن أتقبل كلَّ أفكارك. الصداقةُ ليست اتفاقًا دائمًا، بل هي الوفاءُ رغم الاختلاف.
بل يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك، كما في القاعدة التالية:( اختلاف أنماط الناس إيجابي وتكاملي)، فالمجتمعُ كالجسم الواحد، له أعضاءٌ مختلفة الوظائف، لكنها تتعاون لخدمة الكل. الفلاحُ يختلف عن الطبيب، والشاعرُ يختلف عن المهندس، وكلٌّ ضروري.
4. السودان: نسيجٌ من الاختلافات المتآلفة: لنأخذ مثالاً حيًا: دارفور والخرطوم، يمكن لدارفور أن تختلف مع المركز في أولويات السياسة التنموية، وفي توزيع الثروة والسلطة، دون أن يعني هذا الخلافُ رغبةً في الانفصال. الاختلافُ في المصالح شيء، والانفصال في الهوية شيءٌ آخر تمامًا.
دارفورُ تريد مزيدًا من العدالة في توزيع الموارد، والمركزُ قد يرى أولويةً مختلفة. هذا صراعٌ مصلحيٌّ طبيعيٌّ يمكن حله بالمفاوضات العادلة والمؤسسات الفعالة. لكن حين يُرفض هذا الاختلافُ ويُلقى عليه لقب (التمرد)، يتحول الخلافُ البنَّاء إلى صراعٍ وجودي.
تقدم القاعدة التالية مفتاح الحل:( ما تصلح له أنت قد لا أصلح له أنا) نظامُ الحكم المركزيّ الذي يصلح للشمال قد لا يصلح لدارفور أو لشرق السودان. فلماذا لا نعترف بهذا الاختلاف الطبيعي ونبتكر صيغًا مرنةً للحكم تحترم الخصوصيات؟
خاتمة: نحو عقد اجتماعي جديد: الاختلافُ ليس لعنةً، بل هو رأس مالنا الاجتماعيّ الأغلى. السودانُ لم يُبنَ على التجانس، بل على التعدد. مشكلتنا لم تكن في تعدد الأعراق والأديان، بل في فشلنا في صياغة عقد اجتماعي يحوّل هذا التعددَ من مصدرٍ للتوتر إلى مصدرٍ للقوة.
علينا أن نتعلم من القاعدة التالية: (معرفة الناس للتعايش معهم لا لتغييرهم) فالدولةُ القويةُ ليست التي تلغي اختلافات مواطنيها، بل هي التي تحميها وتجعلها مصدرَ إثراء للجميع. ليس المطلوبُ أن نصبحَ جميعًا نفسَ الشخص، بل أن نتعلم فن العيش معًا رغم اختلافنا. فهذه هي الحضارةُ الحقيقية.
هذه هي الأسس. في المقالة القادمة، سننتقل من (لماذا) نختلف، إلى (كيف) نتحاور رغم اختلافنا.
Leave a Reply