حرب أبريل العبثية وإرهاصات المجاعة

صحيفة الهدف

 د. عصام علي حسين

#ملف_الهدف_الاقتصادي

يواجه السودان أزمة حادة في الأمن الغذائي، وقد صُنِّف ضمن الدول التي تعاني من مستويات جوع هي من بين الأسوأ عالميًا. وبحسب بيان المتحدثة المساعدة باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فإن أكثر من 24.6 مليون شخص في السودان يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي. وتظهر حسابات مؤشر استراتيجية التكيف المخفض (rCSI) أن معظم الأسر في مختلف أنحاء البلاد تستخدم اليوم استراتيجيات متعددة للتكيف مع الجوع، في حين تسجل الأسر في ولايتي دارفور والخرطوم أدنى معدلات التكيف بسبب محدودية الموارد المتاحة، والتي لا تكفي في المتوسط لتلبية الاحتياجات الغذائية لأكثر من أسبوع واحد.

إمكانيات زراعية ضخمة ومخزون حيواني واعد

تمثل الزراعة والإنتاج الحيواني الركيزة الأساسية للأمن الغذائي في السودان، إذ تتوافر كل مقوماتهما من حيث المساحات الشاسعة، والمياه، والتنوع المناخي، والأراضي الخصبة، بما يعادل نحو ثلث مساحة السودان البالغة 1,886,068 كيلومترًا مربعًا (728,215 ميلًا مربعًا). وتُقدَّر المساحة الصالحة للزراعة بنحو 41.8 مليون فدان، منها حوالي 1.9 مليون هكتار (4.7 مليون فدان) من الأراضي المروية. أما القطاع المطري التقليدي فتبلغ مساحته المزروعة نحو 23 مليون فدان، ويؤدي دورًا كبيرًا في توفير الغذاء، حيث يُنتج محاصيل رئيسية مثل الذرة الرفيعة (11% من إنتاج السودان)، والدخن (90%)، والذرة الصفراء، والسمسم (28%). ويتذبذب الإنتاج في هذا القطاع تبعًا لكمية الأمطار وتوزيعها، ويعمل فيه ما يقارب 55% من القوى العاملة الزراعية.

أما الثروة الحيوانية، فقد قُدّر حجم القطيع القومي عام 2020 بنحو 109,925,000 رأس (31,787,000 من الأبقار، 41,000,000 من الضأن، 32,218,000 من الماعز، و4,920,000 من الإبل). ويتركز نحو 80% من هذا القطيع في القطاع التقليدي المعتمد على المراعي الطبيعية. كذلك يُقدَّر المخزون السمكي بنحو 72 ألف طن سنويًا، موزعة بين النيل وروافده التي يبلغ طولها 6400 كيلومتر بمساحة 2 مليون هكتار، إضافة إلى بحيرات الخزانات والمياه الإقليمية في البحر الأحمر، فضلًا عن الموارد المائية غير النيلية المقدَّرة بـ 2.8 مليار متر مكعب، والتي تمثل جميعها مصادر محتملة لتعزيز إنتاج الأسماك، إلى جانب الاستزراع السمكي.

وفقًا لتقييم بعثة المحاصيل والإمدادات الغذائية (CFSAM)، بلغ إجمالي إنتاج الحبوب في موسم 2021/22 حوالي 5.1 مليون طن متري (منها 700 ألف طن قمح و3.5 مليون طن ذرة رفيعة)، في حين تُقدَّر الحاجة الاستهلاكية بنحو 7.6 مليون طن متري (2.4 مليون طن قمح و5.2 مليون طن ذرة).

تفاقم الأزمة بسبب الحرب

لقد أدت الحرب المندلعة منذ منتصف أبريل 2023 إلى تفاقم أزمة الأمن الغذائي، حيث لحقت أضرار جسيمة بالقطاعين الزراعي والحيواني، وقدرت الخسائر بحوالي 2.2 مليار دولار. وتشير التقديرات الأولية إلى خروج نحو 3 ملايين فدان عن دائرة الإنتاج، ودخول أكثر من 800 ألف مزارع في دائرة العوز، خاصة بعد وصول الحرب إلى ولاية الجزيرة التي تضم أكبر مشروع زراعي مروي في أفريقيا بمساحة 2.3 مليون فدان. هذا المشروع، الذي يشكل ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني ومصدر دخل لأكثر من مليون أسرة، تعرض لانهيار شبه كامل نتيجة القتال والفوضى الأمنية، حيث دُمِّرت بنيته التحتية، وأُتلفت قنوات الري، ونُهبت مدخلات الإنتاج. كما شمل الانهيار مشروعات مروية أخرى مثل سنجة والسوكي (120 ألف فدان ويعمل فيهما 12 ألف مزارع)، فضلًا عن تضرر المشاريع المطرية في الدالي، المزموم، الرهد، والفاو، والتي خرجت جميعها تقريبًا من دائرة الإنتاج.

القطاع المطري التقليدي لم يسلم هو الآخر من الخراب، حيث نزح أغلب المزارعين رغم أن نحو 85% من السكان في هذه المناطق يعتمدون عليه. أما في المناطق الآمنة نسبيًا شمالي وشرقي السودان، فقد تقلص حجم تمويل المزارعين بنسبة تقارب 90%، بينما ارتفعت تكاليف الإنتاج بصورة هائلة نتيجة تضاعف أسعار الوقود (بأكثر من 400% في بعض المناطق التي تعتمد على الطلمبات)، إضافة إلى نقص الإمداد الكهربائي للمشروعات المروية وارتفاع أسعار الأسمدة.

كذلك تقلصت مساحة المراعي الطبيعية بنسبة 65%، وتعرضت للتلوث بفعل القذائف والألغام. وقد أدى الصراع إلى تراجع تقديم الخدمات البيطرية بنسبة 64%، خاصة فيما يتعلق بالتطعيم، ومكافحة الأوبئة، وخدمات الإرشاد، وتأهيل المراعي. كما دُمرت البنية التحتية لقطاع الثروة الحيوانية، بما في ذلك المعمل المركزي لإنتاج اللقاحات والأمصال، وتعرضت المستشفيات البيطرية للنهب، وتوقفت العمليات الفنية بسبب غياب الأمن. وانعكس ذلك على انتشار الأمراض الحيوانية الوبائية في مناطق كانت تُعرف تاريخيًا بالإنتاج الوفير.

انهار كذلك قطاع الألبان والدواجن لفقدانه مقومات الإنتاج الأساسية، بينما واجه المربون صعوبات هائلة في تسويق مواشيهم بسبب إغلاق الأسواق، وغياب المشترين، وصعوبة الوصول إلى مناطق الاستهلاك، فضلًا عن تفشي السرقة والنهب في ظل الانهيار الأمني. وإلى جانب ذلك، تخلى كثير من الرعاة والكوادر المدربة عن مهنتهم بانضمامهم إلى صفوف المقاتلين، ومن غير المرجح أن يعودوا مستقبلًا إلى مهنة الرعي.

وعلى ضوء هذه التطورات، أصبحت البلاد تواجه أزمة أمن غذائي خانقة، مع مؤشرات واضحة تنذر بالمجاعة.

سبيل النجاة من الكارثة

إن معالجة هذه الأزمة تتطلب قبل كل شيء إيقاف الحرب وفتح الممرات الإنسانية لتوصيل المساعدات، إلى جانب تبني استراتيجيات طويلة الأمد وسياسات تشجع على الإنتاج الزراعي والحيواني، وتعزز البحث العلمي والتطوير، وتحسن البنية التحتية وسلاسل التوريد، والاستثمار في التقنيات الرقمية لتحقيق استدامة الأمن الغذائي في المستقبل.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.