
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
#ملف_الهدف_الاقتصادي
تمهيد:
لم تعد الطاقة المتجددة خيارًا تقنيًا أو بديلاً اقتصاديًا وحسب، بل تحولت إلى لحظة فلسفية فارقة تعيد تعريف علاقة الإنسان بالعالم. فالاقتصاد الأخضر، في جوهره، ليس مجرد معادلة حسابية لضبط الانبعاثات وتخفيض نسب التلوث؛ بل هو محاولة لاستعادة التوازن بين حركة النمو وبين شروط الحياة ذاتها. ومن هنا تكتسب الطاقة المتجددة موقعها بوصفها المحرك الأساسي لمسار التنمية المستدامة؛ لأنها لا تُنتج ميغاوات من الكهرباء فقط، بل تفتح أفقًا لتجديد معنى الإنتاج والاستهلاك في آن واحد.
إن الشمس حين تتحول إلى مصدرٍ للطاقة لا تنير المنازل وحسب؛ بل تنير تصورات جديدة عن اقتصادٍ قائمٍ على التجدد لا الاستنزاف. والريح حين تدير توربيناتها لا تولّد الكهرباء فقط، بل تقدّم رمزًا لاقتصاد يتعلم الإصغاء إلى قوى الطبيعة بدل تحديها بعنفٍ أعمى. هكذا تصبح الطاقة المتجددة أكثر من مجرد أداة؛ إنها نقطة انعطاف حضارية، حيث الانتقال من اقتصادٍ يستهلك المستقبل عبر الوقود الأحفوري، إلى اقتصادٍ ينهل من دورة حياة متجددة تفتح بابًا للانسجام مع الطبيعة.
وحين نتأمل التجارب العالمية، من ألمانيا في توظيف الطاقة الشمسية، إلى المغرب في بناء مشاريع الرياح، ندرك أن المسألة أبعد من مشاريع تقنية. إنها ممارسة ثقافية وإعادة تشكيل للزمن الاقتصادي والاجتماعي. فالطاقة الشمسية في قرية إفريقية مثلًا تعني إمكان التعليم، وتوسّع فرص الصحة، وتحرير العائلات من قيود الظلام. بذلك تتحول الطاقة المتجددة إلى أداة تحرر، تمنح الدول النامية فرصة الخروج من ارتهان تاريخي لمصادر الطاقة التقليدية، وتفك الارتباط بين الهيمنة الجيوسياسية وبين حق الشعوب في التنمية.
لكن هذه الثورة الخضراء تصطدم بجملةٍ من التحديات. فالكلفة الأولية العالية تجعل بعض الحكومات تتردد، والهيمنة المستمرة للنفط والغاز تُبقي السياسة العالمية أسيرة مصالح قديمة، والفجوة التكنولوجية بين الشمال والجنوب تحول دون انتشار متوازن لهذه البدائل. والأخطر أن الزمن نفسه أصبح تحديًا؛ فكل تأخيرٍ في التحول يزيد كلفة الفناء البيئي ويضاعف عبء الأجيال المقبلة. إن المشكلة ليست تقنية أو مالية فقط، بل هي إرادة حضارية: هل لدى البشرية الاستعداد لإعادة كتابة قواعد اللعبة وفق منطق الاستدامة؟
الأرقام العالمية توضح حجم المفارقة؛ فبحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة والأمم المتحدة، بلغت نسبة الطاقة المتجددة نحو (29%) من مزيج الكهرباء العالمي (عام 2022)، مع توقع أن تصل إلى حدود (35–40%) بحلول (2030) إذا تم الالتزام بالوعود المناخية. غير أن الوقود الأحفوري لا يزال يشكل أكثر من (60%) من المزيج، ما يعني أن العالم يواصل رهانه على اقتصاد قائمٍ على الاحتراق والفناء، بينما يتحدث بخطابٍ أخضر عن المستقبل. نحن إذًا أمام سباقٍ حقيقي: إما أن ينتصر مسار التجدد والحياة، أو أن يستمر مسار الاستنزاف والانهيار.
هنا تصبح الطاقة المتجددة مرآة تعكس أزمة أعمق من الاقتصاد وحده؛ لأنها أزمة قيمية. فالسؤال لم يعد: كم نربح من الميغاواط/ساعة؟ بل: أي مستقبل نريد أن نصنع؟ هل نريد اقتصادًا يواصل افتراس الكوكب، أم اقتصادًا يعيد الإنسان إلى موقع الشريك مع الطبيعة لا السيد المتغطرس عليها؟ لهذا فإن الطاقة المتجددة، في عمقها، ليست قطاعًا اقتصاديًا واعدًا فقط، بل إعلان ثورة صامتة على فلسفة النمو اللامحدود، وثورة من أجل أن يبقى الكوكب صالحًا للحياة.
الاقتصاد الأخضر إذًا ليس مجرد إنتاج بلا تلوث، بل هو دعوة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والزمان والطبيعة. وإذا كان القرن العشرون قد شهد صعود اقتصاد الوقود الأحفوري الذي غذّى ثوراتٍ صناعية وعسكرية معًا، فإن القرن الحادي والعشرين مدعو إلى أن يكون قرن اقتصاد الضوء والريح الذي يفتح أمام البشرية أفق الاستمرار. وهنا يتحدد السؤال الحاسم: هل تبقى الطاقة المتجددة مشروعًا جزئيًا محكومًا بحدود السوق والاستثمار، أم تتحول إلى الشرارة التي تدفع الحضارة نحو تجديد عقدها الفلسفي مع الأرض؟
المراجع:
-
International Energy Agency (IEA), World Energy Outlook 2023.
-
United Nations, Renewables 2023 Global Status Report.
-
United Nations Environment Programme (UNEP), Emissions Gap Report 2022.
Leave a Reply