
لم يعد الاقتصاد في السودان مجرد جداول أرقام أو مؤشرات مالية، بل صار سؤالًا وجوديًا، هل يمكن لشعبٍ أن يحيا بينما تنهشه الحرب ويقسمه الانقسام؟ إن التضخم المنفلت، وانهيار الجنيه، وانكماش الناتج، ليست مجرد بيانات؛ إنها شواهد قبور على جسد دولة تتآكل شرعيتها يومًا بعد يوم. اليوم يعيش أكثر من (70%) من السودانيين تحت خط الفقر، فيما نزح الملايين من مدنهم بسبب حرب لا تبقي ولا تذر.
إن الحقيقة الأولى والجوهرية التي لا يمكن تجاوزها هي أن الحرب هي أصل الداء، وأي حديث عن إصلاح اقتصادي دون وقفها ضرب من الوهم، كما يؤكد خبراء الاقتصاد السياسي، لا توجد تنمية في بيئة حرب، لأن الحرب نفسها تتحول إلى اقتصاد بديل قائم على النهب والابتزاز، يلتهم مؤسسات الدولة ويقوض الشرعية. فالحرب في السودان لم تعد مجرد ظرف طارئ يجمّد النمو، بل تحولت إلى ما يسميه علماء الاقتصاد السياسي بـ(اقتصاد الحرب)، وهو نظام موازٍ يعيش على استمرار النزاع، ويعيد توزيع الثروة عبر النهب والابتزاز واحتكار الموارد. ومعه تمددت شبكات (اقتصاد الظل)، حيث تنتقل المعاملات إلى خارج النظام المصرفي الرسمي، ويصبح الذهب والسلاح والعملات الصعبة أدوات تداول موازية للجنيه السوداني. وهكذا يفقد الاقتصاد الوطني وظيفته الطبيعية كأداة إنتاج للحياة من خلال تبادل السلع وتوفير الخدمات، ويتحول إلى مسرح لتجديد الحرب نفسها، ما يجعل أي إصلاح مستحيلًا دون تفكيك هذه البنية الطفيلية. لا استقرار نقدي بلا وقف لإطلاق النار، ولا تعافٍ اقتصادي بينما (73%) من الموازنة يبتلعها الإنفاق العسكري، ولا مستقبل لشعبٍ محاصر بين جوع المائدة وجشع تجار الحرب، وحصار المدن والقرى وتدمير قواعد الانتاج.
إن وقف الحرب اليوم هو المدخل الوحيد لإنقاذ الغد.
لكن وقف الحرب وحده لا يكفي، بل يجب أن يقترن بخطوات عاجلة تؤسس لاستعادة السيادة الاقتصادية:
1. توحيد مؤسسات الدولة النقدية والمالية عبر سلطة انتقالية ذات مهام محددة، تركز على الخزينة والبنك المركزي.
2. وقف طباعة العملة وضبط الإنفاق الحكومي، واعتماد تمويل عادل قائم على الإيرادات المحلية الحقيقية.
3. إدارة ثروات السودان، وعلى رأسها الذهب، عبر قنوات رسمية شفافة تحول ريع السلاح إلى دخل سيادي للشعب.
4. إطلاق برنامج تحويلات اجتماعية رقمية تصل مباشرة إلى الأسر الأكثر تضررًا، بما يعيد الثقة ولو بجرعات صغيرة في فكرة الدولة.
5. إنشاء صندوق وطني لإعادة الإعمار بالشراكة مع القوى العربية الحية، لضمان ألا تتحول السيادة الاقتصادية إلى رهينة الخارج.
6. إعادة التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية، بشروط تحفظ السيادة، وتمنع السودان من السقوط في فخ الديون.
7.سيطرة الدولة على الموارد ومن بينها الذهب والمعادن الأخرى والصمغ العربي والاتصالات.
8.إنشاء شركات المساهمة العامة والبورصات وتأهيل القطاع التعاوني.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي وهو يتابع نزيف السودان يرى أن جوهر الأزمة ليس اقتصاديًا محضًا، بل سياسيًا في الأساس، غياب الدولة الوطنية الجامعة، وانعاش المليشيات وانقسام القوى، وهيمنة الجيش والأجهزة الأمنية والمليشيات على عصب الاقتصاد والحياة السياسية والاجتماعية.
إن البديل عن الانهيار لا يكون إلا بمشروع وطني قومي، يعيد الاعتبار لوحدة الشعب وانبثاق المؤسسات النيابية والتنفيذية عبر الانتخابات، ويربط الاقتصاد بالعدالة الاجتماعية والسيادة الحقيقية. وإن المشروع القومي العربي كما طرحه حزب البعث منذ تأسيسه، يقدم اليوم الإطار الوحيد لاستعادة السودان إلى حضن أمته، عبر ربط السيادة الاقتصادية بالتحرر القومي.
قد يكون السودان اليوم مهددًا بأن يصبح أول بلد يسبق اقتصادُه زوالَ دولته، لكن في ذات المفارقة تكمن الفرصة، فالاقتصاد، بما يملكه من قدرة على إعادة إنتاج الحياة اليومية، يمكن أن يكون نقطة البداية لإنقاذ الدولة. السيادة ليست علمًا فوق مبنى، بل التزامًا بالعدالة، وضمانًا للعملة، ووفاءً للعقد الاجتماعي.
إننا نؤكد أن وقف الحرب هو الشرط الأول لبقاء السودان موحدًا حرًا مستقلًا، وأن كل معالجة اقتصادية لا تبدأ من هذه النقطة مصيرها الفشل. من رحم هذا الموقف المبدئي، ندعو إلى تعبئة وطنية شاملة من خلال بناء الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير، لوقف نزيف الدم، وتوحيد مؤسسات الدولة، وبناء اقتصاد مقاوم يليق بالشعب السوداني الذي ما انكسر يومًا أمام الاستعمار ولا أمام الجوع. فإن بقاء السودان مرهون اليوم بوعي جماهيري يرفض الاستسلام لاقتصاد الدم، ويناضل من أجل وقف الحرب، واستعادة الدولة، وبناء اقتصاد وطني مقاوم. هذه مهمة ومعركة كل مواطن شريف، وكل عامل وفلاح وطالب ومهني وحرفي، وكل مثقف يؤمن بأن السودان يستحق الحياة.
Leave a Reply