أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
في التاريخ العربي ـ الإسلامي، كثير من المواقف تجاوزت حدود السياسة لتتحول إلى قواعد أخلاقية تتوارثها الأجيال. إحدى هذه القواعد هي العبارة الشهيرة المنسوبة إلى الرسول ﷺ حين أمر علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) بمحو كلمات على صك الصلح في الحديبية، رغم اعتراض بعض الصحابة على ذلك. كانت المسألة آنذاك شكلية في ظاهرها، لكنها في جوهرها تمثل درسًا خالدًا في فن إدارة الخلاف وتقديم المصلحة الكبرى على الاعتبارات الشخصية أو الرمزية.
(أمحها يا علي) لم تكن مجرد حذف كلمة، بل كانت محوًا للحاجز النفسي، الذي يمنع عبور الأمة نحو اتفاق أكبر وأعظم. كانت تعبيرًا عن إدراك استراتيجي أن الانتصار الحقيقي أحيانًا يكون في تأجيل المعركة الصغيرة لكسب الحرب الكبرى، وفي التضحية بجزء من الشكل للحفاظ على روح الهدف. كان الأمر في ظاهره تنازلًا شكليًا، لكنه في جوهره تجسيد لفلسفة سياسية عميقة، في أن الانتصار في المعركة الكبرى أحيانًا يقتضي التضحية بجزء من الشكل من أجل بقاء الجوهر، وأن المرونة ليست ضعفًا، بل قدرة على ضبط البوصلة نحو الهدف النهائي.
هذه القاعدة، حين تُقرأ بعين الوعي القومي الثوري، تتحول من حادثة تاريخية إلى منهج عمل معاصر. ففي واقعنا العربي الراهن، حيث تتشابك التهديدات، من مشاريع التقسيم، إلى اغت-صاب فلسطين، إلى التبعية الاقتصادية والسياسية، يصبح بناء الكتلة والجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير ليس خيارًا تكتيكيًا، بل ضرورة استراتيجية. غير أن هذه الجبهة لا تُبنى إذا أصرّ كل طرف على إدراج كل خلافاته وشعاراته وتفاصيله التاريخية في نص الاتفاق أو في خطاب التحالف.
هنا تتجلى (أمحها يا علي) كفعل ثوري، امحُ ما يثير الفرقة، وتجاوز ما يمكن تجاوزه، وأحفظ ما يوحد الصفوف في مواجهة العدو المشترك. ليست دعوة لمحو المبادئ، بل لإزالة ما يعطل المبدأ عن أن يتحول إلى قوة فاعلة في الواقع.
في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، يُفهم العمل الوحدوي على أنه جزء من معركة التحرر القومي الشاملة. الصراع ضد الإم-بريالية والص-هيونية والرجعية لا يحتمل صراعات الهامش، ولا رفاهية التشبث بكل تفصيل تاريخي على حساب الكيان الجامع. فالمعركة ليست بين الحلفاء في الميدان، بل بينهم وبين مشروع الهيمنة، الذي يراهن على شق الصفوف وتفتيت الإرادة.
التاريخ يعلّمنا أن اللحظات، التي تمكنت فيها جماهير الأمة العربية من تجاوز حساسياتهم الداخلية واصطفوا حول هدف جامع، كانت هي اللحظات، التي انتقلت فيها الأمة العربية من موقع الدفاع إلى موقع الفعل. ولعل أخطر ما يواجه الحركات الوطنية والقومية اليوم هو انشغالها بجدالات ثانوية بينما العدو يراكم مكاسبه على الأرض.
إن (أمحها يا علي) هي تذكير بأن السياسة، في أرقى معانيها، ليست فن تسجيل الانتصارات الصغيرة في نصوص الاتفاق، بل فن صناعة الشروط الموضوعية للنصر الكبير. هي دعوة للقيادات والنخب، للنقابات والحركات الشبابية، وللمرأة، ولكل من يرى في الأمة العربية وحدة مصير، أن يمارس شجاعة المحو حين يكون المحو وسيلة للربط، وأن يختار التنازل عن الكلمات إذا كان ذلك سيحفظ المعاني ويقرب ساعة النصر.
في الواقع العربي الراهن، حيث التهديدات الخارجية والداخلية تتكاثر، يصبح التمسك الحرفي بكل تفصيل اختلاف هو وصفة أكيدة للفشل. أما القدرة على قول (أمحها) عند اللحظة المناسبة، فهي ليست تنازلًا عن المبدأ، بل تحصينًا له. إنها دعوة للقيادات والنخب والحركات السياسية لأن تدرك أن الصراع ضد مشاريع التفتيت والهيمنة يحتاج إلى وحدة، وأن هذه الوحدة تبدأ من لحظة قبول الآخر وتجاوز الجراح.
هكذا تتحول (أمحها يا علي) من حادثة تاريخية إلى أداة في علم السياسة والتحالفات؛ إلى فلسفة في التوافق وبناء الكتل والجبهات، وإلى جسرٍ نعبر به من الانقسام نحو الفعل الجماعي. وفي عالمٍ يزداد اضطرابًا، لعلها تكون القاعدة، التي تُخرجنا من متاهة الصراع العبثي إلى أفق الصراع المجدي.
إن بناء الكتلة والجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير يبدأ من هنا، من استعداد كل طرف أن يقول للآخر (أمحها)حين يكون في الكلمة ما يثير الشقاق، وفي المحو ما يفتح الطريق إلى الوحدة. فالمحو هنا ليس إلغاءً للذات، بل إثبات لها في الفعل الجماعي؛ ليس إذابة للهوية، بل إدماج لها في هوية أكبر هي هوية الأمة العربية ورسالتها الخالدة.
وهكذا تتحول القاعدة من مشهد في تاريخ الحديبية إلى أداة استراتيجية في معركة النهضة والتحرر، ومن لحظة وعي فردية إلى مبدأ جمعي يختصر طريق الانتقال من الانقسام إلى الوحدة، ومن التشرذم إلى النصر.

Leave a Reply