
المستشار القانوني أبوبكر عبد الله آدم
(لم تكن الثورة مجرّد احتجاج عابر. كانت يقظة أخلاقية كبرى، إعلانًا جماعيًا من شعب أُقصي طويلًا من المشهد.
ولذلك سُحقت، لا لأنها فشلت، بل لأنها كادت أن تنجح بشروطها هي.
نجحت الثورة حين أسقطت الديكتاتورية بلا إذن خارجي، وبلا رصاصة.
نجحت حين رفضت مقايضة الحقيقة بالتسويات، وحين أعادت السياسة من يد العسكر والأحزاب، التي تماهت مع الدكتاتورية والوكلاء الأجانب، إلى الشباب والنساء والأحياء والشوارع. وهذا النجاح هو ما أرعب الكثيرين.
في مشهد اليوم، لم يَعُد خافيًا أن هناك من يرى في الخراب فرصة، لا مأساة.
فالفكر الانتهازي، الذي يستثمر في معاناة الشعوب ويعيد تقاسم الأرض والثروة من وراء ظهر أصحابها، بات يتحرك بعباءة النظام السابق وفي وضح النهار.
تُرفع رايات الح-رب لسحق الثورة وصانيعها،
وما يُقدَّم على أنه مسعى نحو الاستقرار، يُوظَّف لإعادة إنتاج اختلالات قديمة في ثوب جديد.
لكن الثورات لا تُدفن بالح-رب، بل حتمًا ستعود عندما تسكت المدافع والرصاص)
____________________________
مواصلة للحلقة الأولى :
لم يكتف الدكتور عبدالله درف بنفي اختصاص المحكمة في النظر في the situation in Darfur أو التلاعب بدلالات مبدا الإحالة، بل ذهب أكثر من ذلك، لتغبش مزيد من مساحات راسخة قانونيًا في ما نتاوله مما كتب في هذه المقالة، بهدف إرباك البعض من القانونيين والكثير من غيرهم بخطاب قانوني تتسم مفرداته بالتنافر عندما ركن علي رافعة مبدأ التكاملية (Complementarity) لنفي اختصاص المحكمة بقوله (….الأمر الثالث حتى لو افترضنا جدلًا أن السودان طرف في الميثاق، فإن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة مكملة للمحاكم الوطنية ولا تحل محلها إلا إذا كان القضاء الوطني غير راغب أو غير قادر على محاكمة الجناة….وما قال به المحامي حضرة بعدم وجود قضاء، يكذبه الواقع فالقضاء يعمل بكل ولايات السودان، عدا الخرطوم ويستطيع كل من أرتكبت جريمة في مواجهته قيد الدعوى الجنائية في مكان وجوده، حتى لو ارتكبت الجريمة في مكان آخر، فقانون الإجراءات الجنائية يتيح للشاكي تحريك الدعوى في مكان وجوده، حتى لو ارتكبت الجريمة في مكان آخر، فقانون الإجراءات الجنائية يتيح للشاكي تحريك الدعوى في مكان وجوده….)
المزعج جدًا في هذه الفقرة هو الحكم التقريري للدكتور بأن ما قاله أستاذ حضرة (حول مبدأ التكاملية وغياب رغبة و/أو قدرة النظام القضائي السوداني) في تحقيق العدالة يكذبه الواقع. لماذا؟لأن القضاء يعمل بكل ولايات السودان، عدا الخرطوم.
هذا القول، بالنسبة لي وربما للكثير من القانونيين مزعج جدًا، لأنه قول يخلط بين التمدد الأفقي للأنظمة القضائية ومبدأ تحقيق العدالة. وجود قضاة وشرطة على مدى جغرافي معين لا يعني تحقيف العدالة إذا كان وجودهم رهين بنظام يتنافى وجوده مع المشروعية القانونية والشرعية السياسية كما سنوضح لاحقًا. تعيين وزير تلتبس عليه هذه البديهيات العقلية والأخلاقية قبل أن تكون القانونية، يثير شفقة القانونيين عليه وخوفهم على أنفسهم من انحلال عصبة العدالة، التي تجمعهم كقبيلة عصب انتمائها الإنسانية.
قبل أن تقوم المحكمة الجنائية الدولية، بعد إحالة الوضعية في دارفور إليها بأي إجراء قام مكتب المدعي العام، وقتها أوكامبو، بدراسة النظام القضائي في السودان وخلص في تقرير منشور متعلق بمبدأ التكاملية عام 2005 إلى أن النظام القضائي السوداني غير راغب أو قادر على تحقيق العدالة لأسباب موضوعية تم تفصيلها في تقرير المدعي العام أوكامبو عام 2005 وهي مسوغات موضوعية تعطي مصداقية لما قاله الأستاذ محمود محمد طه، للأسباب الذاتية، الذي أوردها في محاكمته عام 1983، بأن القضاة غير مؤهلين مهنيًا، أو أخلاقيًا. لذا يكون من المستفز جدًا لأي متابع القول بأن سودان ما بعد انقلاب أكتوبر 2021، فيه نظام قضائي عادل. وعندما يأتي هذا الادعاء من شخص تولى وزارة العدل، فهذا دليل على فقدان “الأمل” في تحقيق دولة الحق والقانون.
لا تتوقف مآخذنا على الدكتور عند التلاعب بنصوص قانونية واضحة لأسباب سياسية، بل أن قبوله بوزارة العدل في ظل نظام يفتقر للشرعية السياسية (legitimacy) لا يتسق مع تخصصه القانوني ولكن يتسم مع تاريخه المتصالح مع الدكتوريات.
ليس هناك خلاف بين القانونيبن الوطنيبن بأن النظام فقد شرعيته السياسية منذ أكتوبر 2021، عندما قام البرهان، بصفته القائد العام للقوات المسلحة، بتقويض للوثيقة الدستورية والترتيبات الأمنية للمرحلة الإنتقالية، حيث قام القائد العام في بيانه الأول بإلغاء مجلسي السيادة والوزراء (بإلغاء المواد: 16,15,12,11 من الوثيقة الدستورية) فضلًا عن التملص من الشراكة، التي تأسست عليها المرحلة الانتقالية بإلغاء المادة 71، بل إنها العودة لمرحلة المجلس العسكري الانتقالي عندما تمَّ إلغاء المادة 72 من الوثيقة الدستورية، التي تنص على أن “يحل المجلس العسكري الانتقالي بأداء القسم الدستوري من قبل أعضاء مجلس السيادة”.
لم يكتف النظام بهذه الهرجلة الدستورية بل تم التمادي في ذلك بإجراء تعديل للوثيقة الدستورية في فبراير 2025، التي منحت سلطات واسعة التعديلات، سلطة للعسكر وقائدهم عبد الفتاح البرهان.
إن قبول الدكتور بأن يكون وزيرًا للعدل، عند قراءته بمواقفه المعادية للثورة والداعمة للدكتاتوريات، ليس لتحقيق إصلاحات قانونية أو دستورية، بل لتدعيم ركائز نظام الأمر الواقع تحت لافتة الكرامة.
Leave a Reply