أضواء: الاكتئاب الوظيفي: الأزمة الصامتة في قلب ماكينة الدولة

مقدمة:

في المجتمعات التي تتنفس من ثقافة الكفاح، التي يتماهى فيها المواطن مع فكرته عن العمل بوصفه معراجاً للكرامة، يبدو الاكتئاب الوظيفي كضدٍّ فلسفي لهذه الفرضية. إنه الفجوة بين ما يُنتظر من الإنسان وما يختبره في واقع مؤسسي عقيم. الاكتئاب هنا ليس انكماشاً نفسياً فحسب، بل تجلٍّ لأزمة عميقة في البنية الأخلاقية للعمل، وفي العلاقة بين الفرد والدولة، بين الجهد والمعنى، بين الوظيفة والحياة.

حين تُفرّغ الوظيفة من بعدها الرسالي، وحين تُختزل إلى أوراق، وتوقيعات، وطقوسٍ إدارية لا روح فيها، فإن الإنسان لا ينهار فقط على مكتبه، بل يتفتّت رمزياً كفاعلٍ في التاريخ. وهنا تصبح المؤسسة لا موقعاً للإنتاج، بل مسرحاً بطيئاً للانطفاء.

الوظيفة بين المعنى والعبء: أي مستقبل لكرامة العمل؟

في فكر الأديب التشيكي ميلان كونديرا: “تفقد الأشياء معناها حين تُفرَغ من ثقلها”. وهذا ما حدث للعمل في العديد من الأنظمة العربية؛ فقد خفّ وزنه الرمزي حتى أصبح عبئاً نفسياً. لا يعود الموظف صباحاً إلى مكان يستثمر فيه طاقته، بل يعود إلى مساحة تشعره بالاستنزاف، بالتكرار، واللاجدوى.

وإذا كان علماء الاجتماع الكلاسيكيون – أمثال دوركايم وفيبر – قد ربطوا العمل بالاندماج المجتمعي وبالهوية الفردية، فإن مجتمعاتنا الحديثة تتجه، في ظل المركزية الإدارية واللامبالاة المؤسسية، نحو تفريغ العمل من بُعده الاجتماعي والروحي. وهنا، يُولد الاكتئاب الوظيفي لا بوصفه خللاً فردياً، بل كتعبير عن عطب جماعي في مشروع الدولة الحديثة.

معالم الاكتئاب المؤسسي: كيف يتحدث الصمت؟

الاكتئاب الوظيفي لا يعلن عن نفسه بالضجيج، بل يتسرّب من نظرات منكسرة، ومن ملفات مؤجلة، ومن غياب الحافز عند الأذكياء قبل الكسالى. وتشير الأبحاث النفسية الحديثة إلى أن مظاهر هذا الاكتئاب تشمل:

  • استنزاف الإرادة: حيث يشعر الموظف أنه يعمل بلا أثر، ويبذل بلا اعتراف.
  • التآكل المعنوي: حين تغيب العدالة المهنية، ويفوز القُربى على الكفاءة.
  • العزلة المؤسسية: حيث ينفصل الموظف تدريجياً عن معنى الفريق والمهمة.
  • الهروب الرمزي: من خلال الإجازات المتكررة، التمارض، أو الانسحاب الصامت من المجال العام.

ومن منظور علم النفس التنظيمي، فإن هذه الأعراض ليست حالات فردية، بل نُذر انهيار فيما يُعرف بـ”الثقافة المؤسسية”، أي الروح التي تشد العاملين إلى هدف مشترك، وتحفّزهم رغم الصعاب.

من الأسباب إلى الجذور: البنية السياسية للإحباط

إن الأسباب الظاهرة لا تروي القصة الكاملة. ففي كثير من البلدان العربية، تتجذر أزمة العمل في:

  • تسلّط البيروقراطية الكابحة: حيث تصبح الإجراءات عقيدة، لا وسيلة، ويُكافأ الامتثال لا الإبداع.
  • غياب الرؤية الوطنية: إذ لا يشعر العاملون أن ما يقومون به مرتبط بمشروع أوسع، ولا أن جهودهم ترفد نهضةً وطنية.
  • الاستبداد الرمزي: حيث يُختزل الموظف إلى رقم أو “كائن منفَّذ”، وليس شريكاً في الفعل المؤسسي.
  • هشاشة العقد النفسي: ذلك الاتفاق الضمني بين المؤسسة وموظفيها على الأمان، الاعتراف، وتبادل الاحترام – وقد صار، في كثير من الحالات، مكسوراً.

وحين تتصدع هذه الأرضيات، لا يمكن لوم الموظف على الإحباط، بل ينبغي مساءلة السياسات التي أجهضت حماسته، والبيئة التي لم تحترم إنسانيته.

البعد الوطني للأزمة: حين يُهدَّد الاقتصاد من الداخل

إذا كان الفساد المالي يُضعف الاقتصاد من الأعلى، فإن الاكتئاب الوظيفي يفتته من الداخل. وتشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن الاكتئاب المؤسسي يؤدي إلى خسائر تقارب 12 مليار يوم عمل سنوياً عالمياً. وفي السياقات العربية، حيث يُعاني القطاع العام من ترهّلٍ مزمن، فإن هذه الخسائر لا تُقاس فقط بالمال، بل بغياب المبادرة، بتأجيل القرار، وبصناعة “الفراغ المؤسسي”. وهنا، يصبح الاكتئاب الوظيفي أحد أعطاب السيادة الوطنية، لأنه يُضعف الجبهة الداخلية، ويجعل المؤسسات طاردة للكفاءات، ويُغري العقول بالهجرة أو الانسحاب النفسي.

ما العمل؟ من إصلاح الإدارة إلى تحرير الإنسان:

الحلول لا تبدأ فقط من قوانين الخدمة المدنية، بل من إعادة تعريف الوظيفة بوصفها:

  • مساحة للنمو الشخصي لا مجرد مورد للعيش.
  • منصة للاعتراف لا مجرد أداة للرقابة.
  • تعبيرًا عن الانتماء لا مجرد إجراء لتثبيت “الوضع الوظيفي”.

ولتحقيق ذلك، تقترح الأدبيات المعاصرة:

  • ترسيخ ثقافة التحفيز، لا ثقافة الرقابة فقط.
  • تفعيل مسارات الترقي الوظيفي العادل.
  • بناء مؤسسات راعية للرفاه النفسي، ومنصتة للقلق المشروع.
  • دعم القيادات الوسطى بمهارات الإدارة الإنسانية، لا الإدارية فقط.

خاتمة:

الاكتئاب الوظيفي ليس مرضًا نفسيًا فحسب، بل هو مرآة لعلاقة مختلة بين الدولة والمجتمع، بين الإنسان والمعنى. وهو، بالتالي، سؤالٌ عن طبيعة المشروع الوطني، هل هو قائمٌ على تعبئة الناس حول هدف مشترك، أم على إدارتهم بصمت نحو حافة الانطفاء؟ إن من أعظم مهمات الدولة الحديثة ألا تكتفي بإدارة الطاقات، بل أن تطلقها، أن تسمح لها أن تحلم، أن تُخطئ، أن تبتكر، أن تؤمن بأنها تصنع الفرق. وما لم نعد بناء العمل كمقدّس اجتماعي لا كمجرد وظيفة، سنظلّ نكتب تقارير الأداء بينما الوطن يتألم في الصمت.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.