
القاهرة: هالة حسين
تُدوّنُ حكاية (ع) من قلب فجيعة لا تُنسى، كلماتٍ مُتكسّرةً، يلفّها صوتٌ مبحوحٌ يقطر مرارةً، بينما تُغالِبُ دمعاتٍ لا تُحصى، وهي تستعيدُ في ذاكرتها تلك الليالي السوداء التي عصفت بمدينة الجنينة، حاضرة ولاية غرب دارفور. تقول: “بعد ثمانية عشر يوماً قضيناها في سباق مع الموت، استطعتُ أن أستر جثمان والدي الطاهر، وأواريَهُ الثرى، هو ومن قُتلوا معه غدراً، لم تشفع لهم أعمار كبار السن منهم، ولا ضعف المريض. كنا نتحرك فجر كل يوم، عقب صلاة الصبح، مستغلين غياب ارتكازات الدعم السريع، ونتوجه نحو المنزل حيث كانت الجثث تُنتظر دفنها. نبدأ في حفر القبور، وما إن تُشرق الشمس وتنهال علينا الرَّصاص كالمطر من بنادق القناص الذي يعتلي قمة الجبل، حتى نُجبر على الانسحاب، ونعود أدراجنا من حيث أتينا”. أحداثٌ عصفت بالمدينة من أبريل حتى منتصف نوفمبر 2023، متّبعةً بأيام قليلة لاندلاع الحرب في الخُرْطُوم في 15 أبريل 2023، لتُخلّفَ آلاف الضحايا من المدنيين.
دروب شائكة… نحو قلب الألم
تروي (ع) فصول رحلةٍ قاسيةٍ اضطرت هي وشقيقتها ونسوةٌ أخريات إلى خوضها، مُتسلّقاتٍ دروبًا شائكة، وأزقةً لم تخلُ من خطورة الرَّصاص المُنهمر من كل صوب. على مدى ثلاث أيام متتالية، تكررت رحلة الذَّهاب والإياب المضنية، سعيًا للوصول إلى منزلهم حيث كانت تتأرجح جثث والدها الشيخ، وأخيها، وابن شقيقتها، وابن خالتها، وعمها وابنه، وابن ابنته. كانوا جميعًا ينتظرون من يأتِ ليحفر لهم قبورًا تُدفن فيها أجسادهم الطاهرة.
لم تُثنِها أصوات الرَّصاص المخيفة، ولا نيران القناص الذي استهدفها بوضوح، عن القيام بواجبها المقدس تجاه والدها الشيخ الجليل. فقد ظلت (ع)، التي بلغت ربيعها الخمسين، تُكافح بشجاعة نادرة من أجل مواراة جسد والدها الطاهر ومن قضوا معه غدرًا على أيدي الغدر.
التحلل… وصمتٌ يكاد يقتُل
حكاية (ع)، التي لم تسمح لها روحها بأن تترك جثمان والدها الشيخ عبد الله ومن معه دون دفن، ليُلاقي المصير ذاته الذي حلّ بآلاف الجثث التي تحللت في العراء، تُعد واحدة من آلاف القصص التي نسجتها نساء السودان. نساءٌ لم يمتن حقيقةً في ساحات القتال، بل ماتت أرواحهن من فرط المعاناة وويلات الحرب الدائرة بأشكالها المتعددة، ولم تصل أصواتهن ومعاناتهن إلى أسماع العالم، على الرغم من أنهن الأكثر تضرراً من هذه الكارثة. لذا، حاولنا أن نُفرد هذه المساحة لتصوير جزءٍ يسير من هذه المعاناة الإنسانية الفادحة.
وبحسب التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة، فقد خلّفت الحرب الدائرة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في السودان أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم، حيث تجاوز عدد النازحين الثمانية ملايين شخص، منهم 88% من النساء والأطفال، ما يؤكد حجم المأساة التي تعيشها البلاد.
الذعر: تحولات قاسية في ليلة وضحاها
تُقول (ع) لـ”الملف” بقلبٍ يعتصره الألم، كيف تحوّلت حياتها بين عشية وضحاها من امرأة تعيش في كنف منزلها إلى امرأة نازحة، ثم إلى لاجئة. تقول: “حين اندلعت الحرب، خرج الجميع مذعورين، لا يدركون إلى أين يتوجهون. على الرغم من أننا شهدنا أحداثًا مشابهة من قبل في الجنينة، التي اعتادت أن تشهد توترات متقطعة، وكنا نُجبر على الخروج من منازلنا والبحث عن ملاذ آمن، إلا أن هذه المرة كان الضرب قاسيًا، وصوت الرَّصاص والقذائف يملأ الأجواء. خرجنا، كما الآلاف، بعد أن طُردنا بقوة السلاح، ولجأنا إلى حي الزهور لأنه كان الأكثر أمانًا حينها. وتواصل (ع) سردها: “عندما اقتحموا الحي، كان والدي يقرأ في مصحفه، وقد بدأوا في هدم المنازل، فطلب منهم الكف عن ذلك. بقينا في حي الزهور أياماً عدة، والاشتباكات مستمرة. حينها علمت أن والدي الشيخ، وهو شيخ الحلة ويعمل بمجمع المحاكم بمدينة الجنينة، قد قُتل ومعه ستة آخرون: أخي، وابن أختي، وابن خالتي، وعمي وابنه، وابن ابنته.”
صعوبة الوصول.. وتحدي الأجساد
تُكمل بمرارةٍ لا تُطاق: “بعد أن علمنا بمقتلهم، قررنا الذهاب لدفنهم، لكننا لم نتمكن من الوصول. في اليوم التالي، ومنذ الصباح الباكر، حاولنا مرة أخرى ووصلنا حتى بنك الخرطوم، لكنهم لم يسمحوا لنا بالمواصلة، حيث كانت عربات الدعم السريع مرابطة بالقرب من المكان”. وتتابع وهي تعتصر ألمًا وحزنًا: “مرة أخرى، حاولنا الوصول عبر طريق آخر، مرورًا بالاستاد، غير أن جميع الطرق كانت مغلقة بالارتكازات، فعُدنا أدراجنا. في صبيحة اليوم الثالث، وعقب صلاة الصبح، حضر إلينا أحد جيراننا، وهو من القوات النظامية، ليؤدي واجب العزاء. طلبت منه أن يكون مرافقنا، وبالفعل حضر ومعه آخر، وذهبنا سوياً. ولكن عندما وصلنا إلى المنزل، لم نجد أي أثر لجثة والدي. واضطررنا للعودة بسبب اشتداد المناوشات والانتشار الكثيف للمحاربين الراكبين.”
“عقب ذلك اليوم، علمتُ من بعض الأقرباء أن والدي المقتول كان مُلقى عند الممر الثاني للمنزل. فتوجهنا في تمام الساعة الثالثة صباحاً، وتحركنا من حي الشاطئ، مروراً بالمستشفى، ثم سوق الهداهيد، ومنه إلى إدارة المرور، ثم الاستاد، مروراً بسوق قندهار، ثم حي الثورة جنوباً، حتى وصلنا ووجدنا جثة والدي في ذلك الممر تحت إحدى الأشجار. قمنا بحمل الجثمان وإدخاله إلى المنزل. أما ابن أختي، فكان مقتولاً في إحدى الغرف، وكذلك ابن خالتي. أما أخي، فوجدته بجانب جثة عمنا وابنه وابن كريمته داخل المخزن الذي كنا نستخدمه لتخزين المحاصيل.”
معاناة متزايدة.. وصراعٌ ضد التحلل
(ع)، التي ذاقت مرارة الأمرين (عدم دفن والدها ومن معه) و(حرقة كبدها على فقدانهم)، تقول: “كنت في حالة من الذهاب والإياب يوميًا، وعلمت بأنه تم إخطار الهلال الأحمر، غير أنه مُنع من رفع أي جثة من حي الثورة. مع العلم أنه كانت هناك جثث لأعداد كبيرة من الشباب ملقاة على قارعة الطريق. ظلت لأكثر من عشرين يوماً وهي مُلقاة في الشوارع، ولم يتم سترها، فمنهم من تحلل، ومنهم من جرفته المياه”. وتواصل ووجهها يرسم ملامح لا تفسر من شدة الحزن: “بعد مرور تسعة أيام، التقيت بمولانا (محمد) بحي الزهور، فاستفسرته قائلة: (ما العمل؟) فرد عليّ بأن جمعية الهلال الأحمر قررت ستر جميع الجثامين، إلا أنه تم منعهم من الدفن. فطلبت منه أن أقوم بستر والدي ومن معه، فقال لي: (ممكن)، وردد عبارة: (الروح عند الله، وهو أعلم بها، ولكن الجسد لا بد من ستره).”
“عدنا مرة أخرى إلى حي الشاطئ، وعند مطلع صبح اليوم التالي عدنا إلى حي الثورة، حيث لم يكن هناك أي ارتكاز في ذلك الوقت، وبدأنا في حفر المقابر، ولكننا لم نتمكن من مواصلة الحفر، وذلك بسبب وجود أحد القناصين على الجبل، وكثرة الرصاص المُتجه نحونا، فاضطررنا إلى ترك الحفر والعودة مرة أخرى من حيث أتينا.”
عزيمة وإصرار.. حتى الرمق الأخير
(ع)، التي لم تلن عزيمتها في دفن تلك الجثامين، ولم تُبالِ بمخاطر الطريق، استمرت في المجيء باكراً والعودة قبل شروق الشمس، ولمدة ثلاثة أيام متتالية، في محاولة حفر المقابر. بمعيتها شقيقتها زهراء (والدة أحد القتلى)، وعائشة (زوجة أحد القتلى) وابنتها، إلى جانب إحدى جاراتها، كنّ يساعدنها في الحفر، ليتمكنّ في اليوم الثالث من دفن والدها وثلاثة آخرين معه.
حسرة وألم.. لم تكتمل المهمة
لم يخلُ صوت (ع) من الحسرة والأسى، وهي تشير إلى أنهن لم يتمكنّ من ستر ودفن بقية الجثث التي كانت بالمخزن، وذلك لشدة الظلام وامتلاء المخزن بالمحصول.
عادت (ع) مرة أخرى إلى حي الشاطئ بعد أن سترت والدها، ورغم ألم فراقها عليه وعلى من معه، إلا أنها شعرت براحة كبيرة بعد أن قامت بدفنهم. وبعد أيام من الحرب، حيث شهدت المواجهات هدوءاً نسبيًا للأحوال، وبدأت بعض الأسر في العودة إلى منازلهم من الأحياء الأخرى التي التجأوا إليها بحثاً عن الأمان. مكثت (ع) في حي الزهور بعد عودة الأهالي إليه. في ذلك الوقت، كانت معظم المنازل قد تم حرقها، ومن ضمنها منزل ابنها.
الفرار.. وبداية قصة أخرى
وتعود (ع) لسرد قصتها قائلة: “عقب ذلك، خرجنا من حي الزهور صوب مدينة أدري التشادية. كانت هناك أعداد غفيرة من الفارين من ويلات الحرب، وكانت الجثث ملقاة على طول الطريق، كما أن الطريق لم يخلُ من مقتنيات الفارين المبعثرة في كل مكان. وصلنا إلى منطقة أدري على الحدود التشادية، لكننا لم نجد أي إغاثة أو عمل، فتوجهنا صوب مدينة أبشي، ومنها قررنا الرحيل صوب جمهورية مصر، التي وصلناها بعد مشقة عظيمة. وظللنا شهرًا كاملًا في الطريق قبل أن نصل إلى مصر.” وبذلك، أُسدل الستار على قصة امرأة، ومعها أخريات، أجبرتهن الظروف القاسية على حفر المقابر ودفن أعزاء لديهن، لتبدأ فصول قصة أخرى في حياتها، وهي تُعايش ويلات اللجوء في بلدٍ غريب.
Leave a Reply