
بقلم: سلمى الفلاح
في بلدٍ يتصدرُ قائمةَ الدولِ الأكثرِ تأثراً بالصراعاتِ والنزوحِ وانهيارِ الخدماتِ الأساسيةِ، تواجهُ النساءُ ذواتُ الإعاقةِ في السودانِ تهميشاً مركباً ومتعدّدَ الأبعادِ. إنه تهميشٌ ينبعُ من كونهنّ نساءً، ويُعزَّزُ بالإعاقةِ، ويُفاقمُه واقعُ الحربِ القاسي الذي قضى على ما تبقى من شبكاتِ الدعمِ والرعايةِ الاجتماعيةِ والإنسانيةِ.
تهميشٌ يوميٌّ مضاعفٌ وإقصاءٌ قاسٍ
في الأحياءِ الطرفيةِ المنسيّةِ ومعسكراتِ النزوحِ المكتظةِ، تعيشُ كثيرٌ من النساء ذوات الإعاقةِ في عزلةٍ شبهِ تامةٍ. يُحرمنَ من أبسطِ الحقوقِ الأساسيةِ؛ كالحصولِ على التعليمِ الجيدِ، أو الرعايةِ الصحيةِ الملائمةِ، أو حتى الوصولِ إلى المرافقِ المؤهلةِ لتلبيةِ احتياجاتهنَّ الخاصةِ. بصوتٍ يحملُ مرارةَ الواقعِ، تقولُ خديجة، شابةٌ كفيفةٌ تسكنُ أحدَ مراكزِ الإيواءِ في بورتسودان: “لا أستطيعُ التحركَ بمفردي، ولا أحدَ يهتمُّ بنا هنا”.
إن غيابَ الممراتِ المؤهلةِ، وانعدامَ وسائلِ النقلِ المناسبةِ، والانهيارَ الشاملَ للبنيةِ التحتيةِ، كلّها عواملُ تحوّلُ الإعاقةَ من حالةٍ جسديةٍ إلى عبءٍ اجتماعيٍّ دائمٍ. وبينما تعاني النساءُ في السودانِ عامةً من العنفِ البنيويِّ والتهميشِ، فإن النساءَ ذواتِ الإعاقةِ يواجهنَ مستوياتٍ أشدَّ من الإقصاءِ، وأحياناً حتى من أقربِ الأفرادِ إليهنَّ في أسرهنَّ.
إقصاءٌ مُمنهجٌ من التعليم والعمل
تُشيرُ تقاريرُ محليةٌ إلى أن نسبةَ التحاقِ الفتياتِ ذواتِ الإعاقةِ بالتعليمِ الأساسيِّ لا تتجاوزُ 3%، وهي نسبةٌ تتضاءلُ بشكلٍ حادٍ في المستوياتِ التعليميةِ العليا. المدارسُ غيرُ المؤهلةِ، والوصمةُ الاجتماعيةُ، وغيابُ الدعمِ الحكوميِّ الممنهجِ، كلّها عواملُ تدفعُ هؤلاءِ الفتياتِ قسراً إلى خارجِ المنظومةِ التعليميةِ، لتُحرمنَ من فرصِ التطورِ والاندماجِ.
وفي سوقِ العملِ، تتجلى الحكايةُ بقسوةٍ أشدَّ. تقولُ نادية، خريجةٌ جامعيةٌ من ذواتِ الإعاقةِ الحركيةِ: “قدّمتُ في وظائفَ كثيرةٍ، وما إن يروا العكازَ، حتى يعتذروا فوراً”. ورغمَ وجودِ قوانينَ تتيحُ التمييزَ الإيجابيَّ، مثلَ نسبةِ 2% للتوظيفِ من ذوي الإعاقةِ، إلا أنها تظلُّ حبراً على ورقٍ ولا تُطبّقُ فعلياً، مما يُبقي الأبوابَ موصدةً أمامَ طاقاتٍ كامنةٍ.
الحربُ تُفاقمُ العزلةَ وتُضاعفُ المعاناةَ
منذ اندلاعِ الحربِ الأخيرةِ في السودانِ، تضاعفتْ معاناةُ النساء ذواتِ الإعاقةِ أضعافاً مضاعفةً. النزوحُ القسريُّ، وانهيارُ الخدماتِ الطبيةِ الشاملِ، وصعوبةُ الحركةِ في ظلِّ الفوضى والدمارِ، كلّها عواملُ جعلتْ الوصولَ إلى الملاجئِ أو مراكزِ الإغاثةِ مهمةً شبهَ مستحيلةٍ. في بعضِ الحالاتِ المروّعةِ، تُركتِ النساءُ خلفَ العائلاتِ أثناءَ الفرارِ من مناطقِ القتالِ. يروي أحدُ النشطاءِ من دارفورَ بأسىً: “أعرفُ امرأةً مشلولةً تُركتْ وحدها في منزلها لمدةِ أربعةِ أيامٍ قبلَ أن يُنقذَها الجيرانُ”. كما أن الكثيرَ من المساعداتِ الإنسانيةِ لا تُصمّمُ أو تُنفذُ بطريقةٍ تُراعي الإعاقةَ، مما يزيدُ من تهميشهنَّ حتى داخلِ أوساطِ النازحينَ أنفسهم.
عنفٌ بلا حمايةٍ في ظلِّ الصمتِ
تتعرضُ النساءُ ذواتُ الإعاقةِ أيضاً للعنفِ الجسديِّ والجنسيِّ بشكلٍ أكبرَ بكثيرٍ من غيرهنَّ، وذلكَ بسببِ ضعفِ الحمايةِ المتاحةِ لهنَّ، وغيابِ القدرةِ أحياناً على الدفاعِ عن أنفسهنَّ أو حتى التعبيرِ عن الانتهاكِ الذي تعرضنَ لهُ. ومع انعدامِ الوصولِ إلى الشرطةِ أو المراكزِ القانونيةِ أو الدعمِ النفسيِّ، تظلُّ أغلبُ هذهِ الانتهاكاتِ في طيِّ الصمتِ المطبقِ الذي يزيدُ من آلامِ الضحايا.
من التهميشِ إلى التمكينِ: نداءٌ للعدالةِ
رغمَ كلِّ هذهِ التحدياتِ الجسامِ، تقودُ بعضُ النساء ذواتِ الإعاقةِ جهودًا استثنائيةً للمطالبةِ بحقوقهنَّ وإعلاءِ صوتهنَّ. في الخرطومِ، وقبلَ اندلاعِ الحربِ، كانتْ هناكَ مبادراتٌ نسويةٌ رائدةٌ تقودها نساءٌ من ذواتِ الإعاقةِ لتعديلِ السياساتِ، وتدريبِ النساء على التمكينِ الذاتيِّ، واستخدامِ الإعلامِ البديلِ لسردِ قصصهنَّ وتجاربهنَّ.
ما تحتاجهُ السودانياتُ ذواتُ الإعاقةِ اليومَ ليسَ فقط التعاطفَ العابرَ، بل دمجاً حقيقياً في الخططِ الوطنيةِ التنمويةِ، ومراعاةً خاصةً لاحتياجاتهنَّ في سياساتِ الإغاثةِ العاجلةِ، وبرامجِ إعادةِ الإعمارِ المستقبليةِ، وجميعِ منابرِ السلامِ والحوارِ. فكما قالتْ إحدى الناشطاتِ بحكمةٍ: “لا سلامَ ولا ديمقراطيةَ بدونِ صوتِ النساء، ولا عدالةَ حقيقيةً بدونِ النساء ذواتِ الإعاقةِ”.
في زمنٍ تنهارُ فيهِ الجدرانُ وتُهدمُ المؤسساتُ، تبقى العدالةُ الاجتماعيةُ هي الجدارُ الأخيرُ الذي نحتمي بهِ ونبني عليهِ المستقبلَ. وإن كانَ صوتُ النساء ذواتِ الإعاقةِ مهمشاً اليومَ، فإن الإنصافَ الحقيقيَّ يبدأُ من سماعِ هذا الصوتِ، والاعترافِ بهِ، وتمكينهِ من المشاركةِ الكاملةِ والفاعلةِ في بناءِ سودانٍ جديدٍ، لا يتركُ أحدًا خلفه.
Leave a Reply