الحادثة الغامضة لاختفاء زيت “الكركار”

بقلم: أ.د أمير محمد حسين
إذا أردت أن ترى جمال فاطمة في البيت، فانظر إلى محمد في السوق. هكذا كان أهلنا قرب منحنى النيل العظيم في أبي حمد يقولون، وكأنهم بذلك يعلّموننا فنون الجمال والحياء معًا. لكن إن لم يعجبك هذا النهج، فما عليك إلا انتظار العيد، حين تُفتح أبواب المنازل على مصاريعها، ويتأنق الجميع لاستقبال الزوار وكأنهم ورود تفتحت بعد طول انتظار.
ولكن العيد هذا العام كان مختلفًا تمامًا.
محمد، صديقي العزيز، كان أسطورة حية في القرية. إذا كنت قد رأيت أندريه العملاق على شاشة التلفزيون، فمحمد كان النسخة السودانية منه، بوسامة تضاهي جورج كلوني، وبأكتاف تتسع لحمل نصف القرية. ومع ذلك، كان يُلقب بـ”العملاق اللطيف”؛ فطيبة قلبه كانت تضاهي قوته الجسدية. في حولية الشيخ حسنين، مريد الشيخ أحمد البدوي، كان محمد يقلب الثور المذبوح بيد واحدة كأنه قرص هامبرغر، وكان هو البطل الذي يُستدعى إذا غرز حمار في الطين أو غاص لوري في رمال الصحراء. بل شوهد أكثر من مرة يجر المحراث في الحقول لمن لا يمتلكون الثيران.
أما أخواته الثلاث، فكنّ أجمل زهرات الحقل. أهل القرية كانوا يسمونهن “البلابل”، ليس فقط لجمالهن، بل أيضًا لعفويتهن ورشاقتهن، وإشارة إلى الفرقة الغنائية الشهيرة، التي تحمل الاسم نفسه. كنّ خليطًا من الجمال القمحي والعيون الخضراء، التي تنبئ عن أصل تركي قديم، لكن أجمل ما فيهن أنهن لم يعلمن كم هن جميلات.
في ليلة الوقفة، اجتهدت البلابل ككل نساء القرية في الاستعداد للعيد. أزلن الغبار عن الجدران، كنسن الأرضيات، رششن الحيشان بالماء حتى صار ملمسها كالحرير. صنعن الكعك الناعم بعناية، كأنهن ينسجن ذهبًا، وحضرن زيت الكركار السحري من زيت السمسم ودهن الخراف والصمغ العربي، ليُستخدم في تسريح شعورهن الطويلة ودهن بشرتهن المخملية استعدادًا لصباح العيد. لكن، وسط هذا النشاط المحموم، كان من الطبيعي أن تنسى الكبرى أن تغلي الفول المصري للعشاء.
في صباح العيد، أشرقت البلابل على العالم بفرحة غامرة. ارتدين أثوابهن المطرزة، وأخرجن قارورة زيت الكركار ليمسحن به خصلات شعورهن… لكن الصدمة كانت بانتظارهن.
القارورة كانت فارغة تمامًا.
وأكثر من ذلك، صفائح الكعك، التي ملأت القرية برائحتها ليلة البارحة، لم يعد فيها سوى الفتات. كان المشهد أقرب إلى إحدى الجرائم، التي يرويها محققو الروايات. أصابهن الذعر، وركضن إلى غرفة أخيهن محمد، الذي كان ما زال نائمًا بهدوء، وأثر زيت الكركار يسيل من جانبي فمه حول شفتيه الواسعتين اللتين تحملان بقايا السكر الناعم.
نظرن إليه بابتسامة تجمع بين الشفقة والغضب. الكبرى، وهي تحمل القارورة الفارغة، هزت رأسها وقالت:
“محمد دا خلص العيد قبل ما يبدأ.”

أما الصغرى، فقد أسرعت نحو الحائط الطيني تخاطب الجيران بصوت نصفه ضحك ونصفه حرج:
“ما عندكم باقي زيت كركار نلحق به العيد؟”

وفي الزاوية، وقفت القارورة الفارغة كأنما تروي قصة لن ينساها أحد.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.