“المثقف والمجتمع” نحو تأسيس عقل جمعي جديد!…

بقلم: زكريا نمر
كاتب من جنوب السودان
إن تحالف المثقفين ضمن إطار منظم ونشاط منسق لا يُعتبر مجرد خطوة تنظيمية عابرة، بل يمثل حدثًا محوريًا في إعادة تشكيل العلاقة بين النخبة والمجتمع، وبين الأفكار والواقع، وبين الرؤية والسلطة. فعندما يسعى المثقفون إلى إنشاء مؤسسات تدعم الثقافة الحرة، فإنهم يؤسسون لفضاء جديد يعزز التعبير الجماعي، بعيدًا عن الهيمنة السياسية، ومتجاوزًا لنماذج الثقافة المدفوعة، التي تُستخدم كأداة تبريرية في يد السلطة أو الزعامات التقليدية.

إن وجود نخبة مثقفة موحدة، قادرة على العمل في بيئة تشاركية، لا يعني فقط إنتاج خطاب معرفي ناضج، بل يمنح الجماهير صوتًا يعبر عنهم، صوتًا يتحدث بلغة الوعي الجمعي ويترجم تطلعات الناس إلى مشاريع فكرية واجتماعية حقيقية. وعندما يرى الجمهور هذه النخبة وقد تجاوزت نرجسياتها الفردية، وكسرَت قيود الذاتيات الضيقة والمصالح الشخصية والتنافس العقيم على المساحات الرمزية، فإن ثقتهم بها تزداد، وتزداد ميولهم للاستماع إلى ما تقوله.

لا تكتسب النخب قيمتها الحقيقية إذا ظلت محصورة في أبراجها العاجية، أو متنازعة على زعامة وهمية، أو محصورة في “دكاكين ثقافية” مغلقة تعزز النخبوية المعزولة. تحتاج المجتمعات الحديثة، خاصة تلك التي تعاني من آثار الاستبداد أو الفوضى، إلى نوع جديد من القيادة الرمزية: قيادة فكرية وأخلاقية تمثل ما يمكن تسميته بـ”مجلس الحكماء”. هنا، تتجمع العقول الناضجة لتقديم بوصلة واضحة تسهم في إعادة بناء العقد الاجتماعي وتحديد معالم المشروع الوطني، الذي يتجاوز اللحظة الراهنة نحو المستقبل.

فإن تحول النخبة المثقفة إلى قوة اجتماعية متعاونة ومتضامنة لم يعد مجرد ترف فكري أو مطلب نظري مؤجل، بل أصبح ضرورة ملحة تفرضها ظروف الواقع المتأزم. هذا التحول هو السبيل الوحيد لتحرير الطليعة الشابة من شهوات التحزب الضيق والانغلاق الإيديولوجي، ومن الاعتماد على الزعامات الكاريزمية التي غالبًا ما تقود الجماهير نحو أهداف شخصية لا تعكس مصالحهم الحقيقية.

إن المثقف، الذي لا يتفاعل مع قضايا المجتمع ولا يساهم في تفكيك الهياكل السلطوية المتأصلة في الوعي الاجتماعي، يبقى جزءًا من المشكلة بدلًا من أن يكون جزءًا من الحل. في المقابل، المثقف الذي يخرج من عزلته ليشارك في مشروع جماعي، يعيد الثقة بين الفكر والواقع، وبين النخبة والجمهور. وعندما يحدث ذلك، تبدأ الجماهير في اكتشاف قوتها، وتتحرر من التبعية، وتبدأ في تشكيل مسارها التاريخي بحرية ومسؤولية.

فإن دور النخبة اليوم لا يقتصر على إنتاج الخطاب، بل يمتد إلى بناء مساحات مشتركة، وتنظيم الذات الجماعية، وتعزيز قيم الحوار والتوافق، وتقديم بدائل واقعية يمكن أن تشكل قوة دافعة نحو تغيير عميق وبناء.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.