المثقف العربي والعلاقة بين السياسة والتاريخ

د.يوسف مكي
كاتب من المملكة العربية السعودية

في أحاديث سابقة، ومنذ قرابة عقد من الزمن، تناولنا أزمة الفكر العربي في الأبعاد السياسية والاقتصادية والفلسفية والاجتماعية. والموضوع بجله يختزل في التناقض، الذي يعيشه المجتمع العربي ومن ضمنه النخب الفكرية والثقافية، وبين ما نتوق له من تحولات تجعلنا في القلب من التحولات الكونية، التي تجري من حولنا.
فالمثقف العربي في الأغلب يعيش ازدواجية بين فكره وممارسته، بين توسله الحداثة كوسيلة لا مناص منها للانتقال بالمجتمع العربي، وبين راهنه المتجلبب بعصر غيره. إن ذلك يعني ضرورة تحقيق التماهي بين راهنية الفكر وراهنية الممارسة، بما يفرضه ذلك من انتقال ليس فقط في مجال الفكر، بل وفي البنى الاجتماعية، لكي يكون ممكنًا تحقيق التماهي بين الفكر والممارسة.
الفكر العربي المعاصر في جذوره هو نتاج عصر اليقظة العربية الذي قارع الاستبداد العثماني منذ منتصف القرن التاسع عشر، مبشرًا بالتنوير وبالقيم السياسية الغربية. وقد واجه هذا الفكر ارتباكات وتعقيدات بعد أن أودى بالحلم العربي، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
إن قراءة أزمة المثقف العربي الراهنة ستظل مبتسرة وناقصة إن لم يتم ربطها بسياق تاريخي، ظل محكومًا حتى هذه اللحظة بخطوط ثلاثة: خط التقليد الرافض بقوة التفاعل والتلاقح مع روح هذا العصر والقبول بقوانينه، وخط القطع الكامل مع الماضي واعتبار الحاضر منطلق البداية والنهاية، وخط زاوج بين التقليد والمعاصرة، وكان لهذا الخط الحضور الأقوى، منذ بدء عصر اليقظة العربية.
لقد تصدر خط المزواجة بين التقليد والمعاصرة، معارك الكفاح الوطني ضد الاحتلال الأجنبي. وفي حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية تصاعدت معارك الاستقلال وتحررت معظم الأقطار العربية بنهاية الستينيات من القرن الماضي، لكن ذلك لم يغير كثيرًا من الواقع السياسي والاجتماعي العربيين، فقد استمرت أزمات ما قبل الاستقلال.
لقد عجزت النخب العربية الجديدة عن إحداث تغيرات جذرية تنقل من حال العجز لحال النهوض والتقدم. والخلل هذا في أساسه هو نتاج أزمة تاريخية تمثلت في رسوخ البنيات القديمة وعدم القدرة على اللحاق بقيم الدولة العصرية. وفي مجال الفكر لم يتمكن المثقف العربي من نفض غبار ترسبات الماضي، وظل معتصمًا بثقافته التقليدية رغم ضجيجه العالي وحديثه الصاخب عن الحداثة. وكان ذلك في حقيقته انعكاسًا لهشاشة الهياكل الاجتماعية، التي استند عليها المثقف العربي، وغياب المشروع النهضوي القادر على تحقيق التجانس بين المعنى والمضمون، حيث نداءات العصرنة تتداخل مع الحفاظ على الأصالة، وكليهما على طرفي نقيض. يضاف إلى ذلك كله تبعية المثقف في الثقافة والسياسة والتربية لماضٍ سحقيق وغربة في الجغرافيا، وعجز عن الوصول إلى نقطة التقاطع بين الزمان والمكان، حيث مكامن التاريخ والجغرافيا.
وأزمة المثقف العربي لا تنتهي عند هذا الحد، فهناك استنساخ مشوه لأفكار الحداثة من غير توطين أو خلق أو إبداع، وخلط بين الحداثة وما بعدها. وهناك عجز شبه كامل عن صياغة فلسفة عربية جديدة قادرة على الإجابة عن الأسئلة الملحة المطروحة، بما يتطلب في هذا المنعطف من التاريخ، استحضار فلسفة البرهان في موروثنا العربي والبناء عليها وليس العودة إلى ما قبلها بعهود سحيقة، حيث استعاضت الثقافة العربية بالبيان بدلًا من القراءة والتحليل وتأسيس بنيات فكرية متكاملة.
وفي مجال السياسة، لم يتنبه المثقف العربي، إلى أهمية اقتناص الفرص التاريخية، التي أتيحت لنا لبناء أمة قوية قادرة على أن تشارك بفعالية في مسيرة الإنسانية الصاعدة. بل إننا وللأسف، نحن العرب، نخبًا ثقافية وفكرية وقيادات تواطئنا ضد منجزاتنا التنموية والاقتصادية وانتصاراتنا الوطنية والقومية واعتبرناها حلقة معتمة وعدمية في التاريخ العربي ينبغي تجاوزها، مع أنها كانت الأجمل والأثمن في كل تاريخنا منذ وطأ المغول أرضنا العربية.
وحين تعجز الأمم عن مواجهة أقدارها ويغيب الوعي التاريخي لديها تلجأ إلى الحيل الدفاعية، تارة بترويج لغة اللذة، وتارة أخرى بالترويج للعنف. لقد لجأ الشعب العربي في العقود الأخيرة وبتحريض من النخب الثقافية إلى ماضيه في أكثر حلقاته تكلسًا وتأخرًا كملاذ تستند عليه، فكان استحضار لغة التطرف والإرهاب بديلًا عن الحلم، في الوحدة والتنمية والانعتاق. فكان المروق ومصادرة الكيانات الوطنية، واستخدام مهرجان الربيع، الذي تكشف عن خريف أجرد.
ويبدو أن لاطوق نجاة لهذه الأمة سوى تبديل ثقافة بثقافة، والالتقاء في بوتقة واحدة، لأمة يجمعها لغة وجغرافيا وتاريخ، ولن يكون ذلك ممكنًا إلا بتحقيق التجانس بين المشروع وأدواته وبين المعنى ومضمونه.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.