عن عمر الدوش نحكي.. طوبى لشيء لم يكن

عبد الله رزق أبو سيمازه

ليس ثمة ما هو أفضل من اللحظة الراهنة لتذكر عمر الطيب الدوش.كنت خلصت للتو من كتابة مقدمة للمجموعة القصصية للراحل د.معاوية الشفيع (مكابدات الشفيع السناري). فمنذ حين من الوقت ظللت مهجوساً بأنني مدين بلفتة أو كلمة ما أو إيماءة للشاعر الراحل عمر الطيب الدوش. بلا مناسبة تقريباً. أذكر أن البروفيسور محمد المهدي بشرى سألني ذات مرة ، سؤالاً عابراً عما إذا كنت صديقاً للدوش أو كان من ناحيته صديقاً لي. لا أذكر كيف كانت إجابتي على السؤال، ربما تجاهلت إعطاء إجابة محددة ليست جاهزة أصلاً، إذ أنه كما أظن قد استطرد في بيان أنه قرأ في (المجالس) مقالًا للدوش أسبغ عليّ فيه صفة الصديق. كانت (المجالس) حينذاك جريدة اجتماعية حسب تصنيف مجلس الصحافة والمطبوعات للصحف وتخصيصها لغرض منحها رخصة العمل. كانت الصحيفة الاجتماعية وفق ذلك التصنيف الملتبس تتناول كل شيء عدا السياسة، قبل أن تضع (الدار) يدها على الاصطلاح وتكرسه في خدمة مفهومها، وتصبغه بصبغتها ومجال تغطيتها بحيث أصبح ما هو اجتماعي رديفاً للحوادث والجريمة. وتميزت (المجالس) بأن رئيس التحرير كمال حسن بخيت، عليه رحمة الله، حشد لها صفوة من الكتاب، والمبدعين، كان الدوش واحداً منهم، ومن ثم أتيح لي أن أتعرف عليه شخصياً، وأن يتعرف عليّ.
كنت أتمنى أن أتعرف عليه معرفة أوثق، وأن أتشرف بصحبته، عندما رحلت من أركويت للسكن في أمبده. فقد بدأ لى إنساناً متواضعاً، لطيفاً ميالاً للضحك، ووناساً بغير حدود، وهو ما شجعني لأن استحثه لكتابة مذكراته وتوثيق الحكايات والمواقف الطريفة التي مرت به في الغربة، والتي ينثرها خلال حديثه. غير أنه كان قد انتقل إلى سكن آخر، عندما زرت بيته هناك في الجوار، لأسلمه أصل قصيدته “ضل الضحى”، بعد أن تم نشرها في (المجالس).
أستطيع أن أؤرخ بداية علاقتي بالدوش بتعقيب لي نشرته في جريدة (السودان الحديث)، على مقال له عنوانه: “عن المسارح نحكي”، وهو العنوان الذي أصبح مشتهراً بشكل كبير فيما بعد. فقد رأى البعض في المقال شأناً يخص الدراما بمعناها الضيق والنشاط الدرامي على خلفية اهتمامات الكاتب حد التخصص في هذا الحقل الإبداعي، فزعمت في مقالي أن الكاتب يومئ لمسرح أكبر هو مسرح الحياة العادية، بما فيها من تناقضات ودراما وصراع الحياة المعاشة في بلادنا، ويبدو أن المقال قد وقع موقعاً حسناً من نفس الكاتب.
بعد سنوات من توقف الجريدة، ومن وفاته، علمت من صديقي الشاعر الصادق الرضي أن الدوش قد أوصى قبيل رحيله ضمن أشياء أخرى بأن أكتب مقدمة لمجموعة من مقالاته، يعكف أصدقاؤه حينئذ على جمعها وتجهيزها للطباعة والنشر. وقال أنه نشر تلك الوصية في جريدة (السوداني) حيث كان يعمل في ذلك الوقت مشرفاً على الملف الثقافي للجريدة..
وقد سمعت ذلك، أيضاً من المسرحي علي مهدي عند لقاء معه بجريدة (الخرطوم)، وقبيل زيارة له وشيكة كما قال إلى لندن، حيث يتوقع أن يلتقي باللجنة المعنية بإعداد ذلك الكتاب الذي يحوي مقالتي، تعقيبي على مقال الدوش أيضاً، وحدثني عن المقدمة المنتظر أن أكتبها.
ظللت لفترة، أترقب مجيء تلك اللحظة، مشغولاً بهم كتابة تلك المقدمة/ المقال، التي تثقل مسؤوليتها كاهلي. وعندما تأخر صدور الكتاب أو تأجل، تأجل معه تكليفي بالمقدمة وربما إلى أجل غير مسمى، خطرت ببالي هذه اللفتة التي قد تصلح مقال تقديم، لما لم يصدر بعد، وقد لاحت فرصته، الآن: طوبى لشيء لم يكن..!
عرفت الدوش كشاعر مقل كما يبدو ذلك من مجموعته الشعرية التي تم نشرها بعد وفاته، تحت عنوان: “ليل المغنين”. لكن شعره جيد السبك، مما جعله يتبوأ مكاناً متقدماً وسط شعراء الأغنية. وقد تميز شعره بالدرامية وبالسرد شكلًا، وبالهم الوطني والاجتماعي والانحياز للبسطاء، والكادحين مضموناً. ففي الساقية، قصيدته الأكثر شهرة، انتهج نهجاً درامياً وسردياً، بدلاً من الغنائية، فالدوش هو أحمد في الساقية التي أبدع في تلحينها الموسيقار ناجي القدسي، وحمد الريح في أدائها، ونظام مايو في مكابدة الانزعاج منها ومحاربتها. وهو- كذلك – صالح ود قنعنا، وهو محمد ود حميمة في “ضل الضحى” الملحمة، حيث تتعدد الشخوص والأصوات والأحداث والمناخات، وتتقاطع خطوط الصراع..إلخ، غير أنها فيما يبدو لم تكتمل بعد. الراجح أنها كانت في الأصل نواة مسرحية شعرية. وأحمد أخيراً هو عمر الطيب الدوش نفسه. فقصيدة “الساقية”، وإن سبقت في الميلاد، إلا أنها، تبدو جزء من “ضل الضحى” وأن الأخيرة ما هي غير امتداد عضوي للأولى.
تتميز قصيدة عمر الطيب الدوش، بفرادة الصورة الشعرية. وأظنه بلغ ذروة الإبداع في التعبير عن مشاعر الفرح والغضب، في هذه الصور التي لا مثيل لها في هذا المجاز الخارق، الذي ينبيء عن مقدرة استثنائية في التخييل:
كبرت كراعي من الفرح:
نص في الأرض، نص في النعال..!!
… إلخ..
.. ضاقت نعالي من الزعل،
من تحتها اتململ تراب..!
في القصيدة بدا أحمد – الدوش- بوهيمياً حيناً، مما اضطررنا لتعديل بعض أبياتها، وقد عكفنا على ذلك أنا والأستاذ نبيل غالي بعد أخذ إذنه، وذلك حتى يتسنى مرور القصيدة من رقابة وغلواء الإنقاذ، وتجد طريقها للنشر في (المجالس)، وقد أوضحت ذلك فيما بعد في عمود أسبوعي كنت أنشره في الصفحة الأخيرة من جريدة (الصحافة) مطلع الألفية الثانية، تحت عنوان “فاصل موسيقي”.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.