الأقمار الشائكة “3-2”

أحمد بابكر
قاص من العراق

– بإمكانك التعامل معه وكأن شيئاً لم يكن.
– لكنه مندفع جدًا.
– فأنت بحاجة إلى فترة نقاهة.
– ولا شيء استطيع تجاهله.
استدار في كرسيه وسأل مدرسته بكلمات يشوبها الحرج إن كانت ترغب في الاحتفاظ بعنوانه البريدي، أم تلغيه من ذاكرة الجهاز؟ فكانت إجابتها بكلمات شفافة من أنه لا ضير في الاحتفاظ به للرجوع ليه وقت الحاجة. كان الاختبار شيقًا ودقيقًا بالنسبة له رغم الصعوبات، التي تواجهه. يتطلب إعداد الرموز، وتشفيرها، وتحليلها أوقاتًا طويلة جعلته شبه متفرغ لها، أما هي فقد كانت معتادة على سهر الليالي واستغلال الأوقات حتى آخر لحظة.
– متى تنهي دورتك؟
– ليس بعد، قد تطول.
– ربما تقصر، ولكنيّ أرجح أنها تطول جدًا.
– سننتهي!
جلس في غرفته وحيدًا، آخذًا في استعراض برامجه معها واحدًا بعد الآخر. يسأل نفسه أحيانًا: “هل كان مخطئًا؟ هل هو في ورطة؟”، صفحات تتجاذب أمامه بين الأمل والقنوط، وكلمات بين يديه لا تزوده إلاّ بالنجاح المفرط أو الخسران المبين. أوقات ذهبت تجر أذيالها وعبارات تنام في أدراج الزمن المفقود وعيون لا تدرك مآلها إن كانت إلى كل من الجحيم، أم الفردوس المنشود.
جال في ذاكرته والتقط صورة لقاعة المختبر وتكويناته وهيئاته وهو يعانق أسلاكه الممتدة عبر مناضده الطويلة، استدعى الصورة من ذاكرته وطرحها أمامه، أخذ يمعن النظر فيها كأنه يراه أو يحس به لأول مرة، فرغم صغره شعر بأنه يتسع العالم كله؛ بدقائقه ورتابته وفوضويته. كان يتشرب أحاسيسه كما تتشرب أوراد الزنابق قطرات الندى، فهي وإن كانت ضئيلة، إلاّ أنها كافية كي تمدها بما تحتاجه من إكسير وإن عاشت مدى الدهر.
– لماذا لا تضعين حدًا لمعاناتك وتأففاتك؟
– الزمن كفيل بذلك.
– سوف تظلمينه ولا ذنب له سوى…
– إنه قام على أشلاء إنسان آخر!
همس في عينيها مرة: “إنيّ أرتاح إليك كثيرًا”، فردت عليه بتورد وجنتيها، واكفهرار صورتها، وارتباك نظراتها من على الشاشة، فحاول استدراك الموقف: “أقصد لطريقة تدريسك، وذكائك الخرافي في حل المسائل العالقة”.
“كان صادقًا معي إلاّ في تلك “العالقة” فهو على ما أظن أفضل منيّ”.
دار بينهما كلام كثير، حيث تناولا جزءً من الماضي وأجزاء من الحاضر، كانت كلماتها تنساب في أذنيه بنبرات حادة ممتلئة ثقة، كما كانت تحاول أن تكون شاشتها بيضاء ناصعة أمامه بينما حاول هو أن يؤطرها بتعبيرية مموسقة.
جلست على طاولة مكتبها كالمعتاد وأخذت تداعب بأناملها لوحة المفاتيح، فقد خطر ببالها أن تتأكد من صحة المعلومات الواردة، صورته كانت ماثلة تتحدى توجسها وقلقها. أخذت تقلب ملفاته، إعداداته، حساباته، حتى نبشت تاريخه، بدت وكأنها تبحث عن أوراق قد عفى عليها الزمن. استحضرت صورته في ذهنها/ ذاكرتها وراحت تجيل النظر فيها وتقارن بين أطياف الأحداث لتمررها عبر الأسلاك العنكبوتية الممتدة أمامها. أرادت أن تخلص بنتيجة ولكنها لم تفلح، أو قد تكون قد تحاشت هذه النتيجة بعد أن ثبت لديها بما لا يقبل الشك أن المحصلة هي خسارتها في كلتا الحالتين.
– لماذا لا تخلصنا وتنام أبدياً لتريح وتستريح؟
– الأغبياء وحدهم يموتون بسلام!
– مثلنا ولكن ليس بسلام.
– حتى ولو نصف حقوقهم.
كان عليه أن يعيد برنامجه من جديد، وأن يعيد صياغة الزمن بصورة درامية تساعده على فهم الحاضر، والتطلع لحسن الآتي. كرر المحاولة مرات ومرات، ولكن زمنه كان دائم التمرد عليه، فهو يعلم أنه قد بدأ ولن يعلن انهزامه بسهولة، إذن عليه أن ينتظر رحمة الأسلاك الناعمة، وإلاّ سوف يدق آخر مسمار في نعش التاريخ، وبموكب جنائزي حافل بالدهشة والذهول يشيعه إلى المقبرة بلا صراخ أو جعجعة.
في لقائهما الأخير تجرأ ودس لها هدية موشاة بعبارة افتراضية لن ينتظر الرد عليها، وعندما لاحظ أن الحالة/ النوبة الأولى لم تعتريها، تجرأ أكثر ووضع رسالته في صندوقها البريدي عبر الخدمة، التي توفرها شبكتها، التي كانت قد أعدتها خصيصًا للتدريب.
– لماذا لا تختاري الجانب الآخر من حياتك؟
– أن أجمع أشلائي الممزقة!
– تثأري لنفسك وتجرحي كبرياء إنسان!
– ومن منهم لا تستهويه لعبة القرش والتونة؟
كانت لحظات موجعة بدت تؤرقها في نومها وأثناء صحوتها. تجلس بعد منتصف الليل وتعيد ترتيب الأوراق بطريقة ذرائعية تتخللها زحمة الكلمات المبعثرة على صفحات ذاكرتها المتعبة. تعيد برنامجها مرات ومرات، لكن تفكيرها يتبخر بسرعة جنونية لا تكاد أن تدركه رغم حدة بصرها. استعانت بذاكرة الحاسوب، بالأقمار الصناعية، بشبكة الإنترنت، لكنها لم تفلح في ترتيب جزءً من الأحداث، أو على الأقل كبح جماح هذا السيل العارم من الإلكترونات، التي تدور في رأسها محدثتًا صداعًا وأرقًا حادّين، كانت مشكلتها أكبر من أن تعالجها مثل هذه الأجهزة، فكان لابد من العودة إلى أرقها وتوجعها.
– لماذا لا يكون مختلفًا عن الآخرين؟
– ربما! ولكن الحظ لا يجانب المساكين.
– فأنت الضحية وليس غيرك.
– وأخيرًا.
عندما ناولته شهادة الدورة وهي تقف بكل عنفوانها ورهبتها الملكية، أفضت له بسعادتها لنيله الدرجة الأولى بين أقرانه. عندما انطلق الحفل الصغير بهذه المناسبة، نأت به جانبًا وهمست بمسامعه بنظرات شفيفة وشفاه كرستالية ملتبسة على نفسها: “إننيّ ربما أكون مسافرة غدًا على جناح مركبة تضل الغيوم بمشيتها”، ثم حاولت أن تستدرك الحوار أكثر رسميةً بأن تتمنى له النجاح والموفقية في عمله وألف مبروك الفوز،…الخ. أما هو فراح يستقبل أطروحاتها بشيء من الدعة عند ذي بدء، إلى أن بدى أكثر جنونية عندما قاطعها باهتمام بالغ، وأبدى لها رغبته الحتمية في معرفة النتيجة بلا رتوش، حقيقة كان بانتظارها طويلًا، فلم تر بداً من الوقوف عند إصراره، فعمدت إلى استئذانه بأن يمنحها فرصةً إرسال الجواب النهائي عبر الأسلاك العنكبوتية عندما تخلص بنتيجة قبيل الفجر.
– ستكون رحلتكِ صعبة.
– ولكنها تضع المآل في مرمى اليقين.
– وتتيهين في الماضي الرحيب.
– إلى أن عودتي هي الأصعب.
أخذت الطائرة تصدر أزيزًا عنيفًا وهي تقلع بكامل ثقلها معلنة أنها سوف تخترق كل الأمواج الكونية والإشارات الراديوية، وكل الأطياف الشمسية بأجنحتها المشرعة. كانت قد خلفت ورائها تاريخًا، وشعبًا، وأرضًا مر بداخلها فترك آثاره بعمق حتى في شعاع نظراتها. فضلت لها مقعدًا يتيح التطلع عبر النافذة الصغيرة كي تتنسم حس المشهد.
– لماذا لا تُصلحي حالك معه؟
– ستكون مأساة إنسانية تافهة.
– بل أغنيتين خالدتين.
– كذبة سائرة على كل لسان.
وما أن أصبحت رحلتها تطال الأفق، حتى بدأت تلتهم وجبتها بنهم شديد، ثم طلبت من المضّيفة أن تمنحها كوبًا إضافيًا من الشاي، وبدأت تقلب صفحات مجموعة من الأوراق كانت في جعبتها لهذه الرحلة. أرادت أن تدفن أعينها بين الأسطر لعلها تحلم بعالم جديد وأغنية خالدة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.