
د.أشرف مبارك
كان ذلك يوم أن زارتنا الخالة نفيسة، كانت الشمس تميل نحو الغروب، فتحت لها الباب ودخلت، جلست مع أمي في الفناء الخلفي حيث يجلس النساء عادة، وحيث الظل أطول، وبدأ صوتها يخترق حواجز السكون في ذلك الوقت الذي تسكن فيه الأصوات ويعم الهدوء الذي تتخلله شقشقة العصافير في الأشجار.
لم أسمع كل الكلام الذي يتقلب بين الصوت العالي والهمس، لكن عينيّ أمي كانت تلتقي بي بين الحين والآخر، ثم أومأت للخالة نفيسة.. وضحكتا ضحكة مكتومة، كأنما تخفيان شيئاً وهما تحتسيان القهوة. نظرت إلىّ الخالة نفيسة وسألت عني أمي التي سارعت وأفرغت لها الشكوى منيّ: منذ بدأت العطلة وهو يلعب مع الأطفال طوال النهار في الشارع الثاني قدام الزقاق جنب بيت ناس الخير، ويكوركوا ينادوا ولدهم الحسن القالوا مجنون داك “ديجانقو! ديجانقو!”. قرصتني في شحمة أذني وقالت لي: هوي يا ولد تعرف ديجانقو دا بياكل الأطفال؟. وأعطتني قروشاً وهمست لي في أذني: أجري لى دكان سعيد هات سيجارة وخد الباقي.. كانت الخالة نفيسة حين تدخن تمصّ السيجارة مصاً بطيئاً كأنما تمتصّ منها آخر أسرارها، ثم تنفث الدخان ببطء في الهواء وهي تنظر إليه كأنما تطرد حكاية لا تريد لأحد أن يراها.
في تلك الأيام، كنت أهرب إلى الشارع الثاني حيث ينتهي الزقاق وكان الأطفال يلعبون ويصيحون: ديجانقو!.. كان الاسم يعلق في الهواء ويبقى له صدى ورنين. لم أكن أعرف معناه ولا أظن الأطفال كانوا يعرفون، لكنه اسم توارثوه من أجيال سبقتهم في الحارة وفي المدرسة. كانوا حين يهتفون بالاسم يركضون ويتوارون كأنهم يختبرون حافة المسموح، أو بسخريتهم يطرقون الذي لا يفهمونه.
وانتهت العطلة.. لم تكن الطريق إلى المدرسة طويلة، لكنها كانت تمر من حيث لا ينبغي، صار الزقاق أضيق، وكان هو هناك. كان من عادته كل صباح أن يقف أمام الباب كأنه ينتظر أحداً.. يتأمل الطريق والمارة، يرد سلام هذا ويبتسم لذاك، كنا نمر من قبل ولم أكن أعره اهتماماً.
ذات صباح، رأيته واقفاً عند الباب كالمعتاد ولكن كان في يده كيس من الخيش، واضح أن فيه سكاكين وفؤؤس، وعلى الأرض شيء بلون الدم وبعض قذارة إلتم فوقها الذباب. وعلى الجدار في جانبي الباب كُتب بطلاء أبيض: “يا داخل هذه الدار، صل على النبي المختار.. حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً”. سمعت أحد الجيران يصيح من بعيد: الحمد لله على سلامة الحجاج! نجي نسلم عليهم بعدين، وكانت كلبته تحت قدميه تنبح.
منذ ذلك اليوم صار الزقاق يمتد أمامي ككابوس مريع، كلما مررت به، وصار مشوار المدرسة أفظع من المدرسة نفسها بواجباتها الثقيلة وعقابها المخيف وسوط العنج. كلما مررت بالزقاق كان هو هناك الرعب بذاته، مرة رأيته يحدث نفسه ويحك رأسه بعصبية: أين الصغير؟ فأطلقت ساقي للريح رغم أننيّ سمعت من يرد عليه: الجرو هنا.
لم أعد ألعب هناك، صرت أعد خطواتي حين أمر، لا ألتفت ولا أنظر إلى جانبي الطريق، وكنت أعدو إذا سمعت الأطفال ينادون: ديجانقو!
وفي مرة من المرات، وأنا ذاهب إلى المدرسة، وكنت قد تأخرت ولم أجد رفقة للطريق، إذ كانوا جميعاً قد ذهبوا.. وكانت كلبته المخيفة في الطريق ولم يكن هناك غير رجل في آخر الزقاق، وبدأت الكلبة تنبح وخفت وكدت أبكي.. هل أجري؟ هل أصرخ؟ لعل أحد ينجدني.. وأخذت أنادي ذلك الرجل بصوت باك: يا عم يا عم! لكنه لم يسمعني.
فجأة هدأت الكلبة وشعرت بيد تمسك يدي، وصوت رخيم يقول اسمي كمن يعرفني. وربت على رأسي برفق وقال: تعال، حأمشي معاك.. إتأخرت الليلة، ما كدا؟.. رفعت رأسي.. كان هو، مشينا معاً، خطواته هادئة وعيناه تبحثان عن شيء في البعيد، قال لي: خلي بالك من الشارع.. فيهو عربات كتيرة.
Leave a Reply