
على خلفية صوت الحوت رقدت مدينة أم درمان تتوسد وجعها الممتد لأكثر من عامين.
صوت حزين يأتي مع لفح السموم وتفشي الأوبئة التي اقتحمت البيوت المهدمة المسروقة، يردد: كأني مديون للعذاب وبدفع سنين من عمري دين.
في ذات جلسة رايقة، قال لي صديقي:
“تعرف؟ من ما انتكت شجرة الدومة ووقعت، ونحن لسة مصرين نسمي الشارع باسمها، عرفت إننا نفسيًا رافضين نعيش واقعنا.”
بيني وبينكم، ما شعرت بكلامه، ولا حسيت إني عايز أرد عليه. ما هو أصلًا ده شارع الدومة، لو قاعدة الدومة أو راحت. يعني نسميه شارع الدومة سابقًا ولا شنو؟
بمناسبة الدومة، أفيدكم بأنني، رغم اجتهادي، لم أجد أحدًا لأسأله عن بوابة عبد الغيوم: هل ما تزال واقفة؟ أم أن بعضهم استخدمها كساتر وحدث لها ما حدث؟
كل الأخبار من هناك تأتي بطعم الماء الملوث، وتحمل أصوات انفجارات كلية التربية – جامعة الخرطوم، التي قيل إن القصف أصاب مخزنًا للسلاح بدلًا من أن يصيب مكتبتها.
سهر الخمار والسمار، وكذب صاحب “الملوص والسنبهار”، ثم الحمد لله الذي قبض روح عاشق أم درمان سيف الدين الدسوقي قبل أن يرى الكوليرا تفتك بالناس في زمن الحرب:
“نحن في الأيام بقينا قصة، ما بتعرف نهاية. ابتدت ريدة ومحنة، وأصبحت في ذاتها غاية.”
هل كذب علينا غابرييل غارسيا ماركيز عندما حكى لنا “قصة حب في زمن الكوليرا”؟
كيف يكون الحب، ورائحة الموت الكريهة تملأ المكان، وتكسر خاطر المريض الذي لم يجد حتى سريرًا يرقد عليه، فاحتملته الأرض كأنها تريد أن تمهد له طريقًا للقبر فيها؟
رسالة وصلتني من أحدهم ليلة أمس، قال لي:
“تتذكر يا أبو الخلد صاحبنا (ع) دفعتنا في مدرسة الموردة الابتدائية؟ الراجل توفى أمس بالكوليرا.”
يا زول، هو أصلًا ما مرق من أم درمان؟
أبدًا والله، هو أصلًا الكوليرا بقت ليه سبب. وضعه كان بقول إنه حيموت. الراجل ضعف، ورجلينه بقن ما شايلاتنو من الجوع والهموم. قال ليك دخل في حالة حزن، وبطل يمرق ويقابل الناس.
(ع) الكان عبارة عن طاقة إيجابية تمشي بين الناس، قبل الحرب بفترة قصيرة التقيته بالصدفة في سوق الموردة. سمعت ضحكته أولًا، تلك الضحكة المميزة، التفت فوجدته عبارة عن ابتسامة تجلس على كرسي. دون كلمة، تعانقنا طويلًا، ثم تصافحنا، ورأيت في عينيه دموع شوق ومحبة. ولست أدري هل انتبه هو لدموعي أم لا. المهم، إنه الآن رحل، ولا أدري كيف نؤرخ لرحيله: هل نقول مات في زمن الكوليرا أم زمن الحرب؟ المهم هو مات، ونحن نعرف سبب الموت. وبالنسبة لي، الكوليرا بريئة من دمه، والجناة معروفين عندي.
مئات دخلوا، عشرات خرجوا محمولين بخوف. هذا المرض اللعين لا يرحم، وهو دائمًا في حالة اشتهاء للأرواح.
وصوت الحوت يقاوم ويأبى إلا أن يواصل التدفق: كأني مديون للعذاب وبدفع من سنين من عمري دين.
يا عشة، كيف يجو عايدين؟ إن شاء الله عايدين يا الله.
هو في عاقل برجع لمدينة شبعت كلابها وقططها من جثث البشر؟
مدينة القبور فيها بين الخطوة والخطوة؟
بلد كلما اشتد حرها، خرجت رائحة الموت تقتحم خياشيمك حتى تجاويف الدماغ.
كم من مصاب في مصابك يا أم در أمان؟
كل المشافي امتلأت، حتى الأرض، وأمام البوابات، البيوت..
درمة أعلن حالة الطوارئ قبل الوالي، ولسان حاله يقول:
“أجيب ليكم مقابر من وين حبايبي أنا؟”
برضي ليك المولى الموالي، ويا الوالي وييينك؟ والله مشتاقين لموية الشراب.
لم نعد نهتم كثيرًا بشكل القبر، تكفي حفرة نضع الميت فيها على القبلة.
يا حليل التنظير أثناء حفر القبر وصراع الأجيال الذي كان يحدث بين الشباب الحفارين واعمامك المنظراتية..
ليس من وقت يسمح بالحديث عن طول ود الأحد وضرورة رش قبر الجار بما تبقى من ماء.
حتى الصلاة همسًا، والعزاء همسًا، والبكاء همسًا، والدعاء همسًا، وهمسًا نودع الأحباب.
مستشفى النو تئن من فرط التكدس، ناس تعاين في الأرض تراقب سير الدرب الذي يحمله المرافق بيده وقوفًا، وناس تبحلق في السماء خوف المسيرات.
حاجة حليمة ماتت بالكوليرا، ومصطفى، وسعاد بت الجيران، وعمي محمد، وخمسة طفلات قالوا يدفنوهن مع بعض.
مستشفى أم درمان بلا كهرباء ولا ماء، والسخانة ألف، وصوت الحوت يقطع المسافات عدواً، قاهرًا بلا تحنيس، يبدو أكثر وضوحًا من ذي قبل ببحّته المحببة، يردد:
كأني مديون للعذاب…
يا ولد، ما تطلع من البيت. البلد فيها كوليرا.
انتهى الخوف من الحرب مؤقتًا ليحل محله الخوف من المرض والجوع والعطش.
حاجة نعمة قالت: البلد دي محتاجة رقية شرعية. ما معقول سنتين وداخلين في التالتة، لا ديل دايرين يعقلوا، لا ديلاك!
يا مثبت العقل يا الله… بالأمس دفنا خمسة، وقبله مشينا المقابر، واليوم شاعر بفتور وراسي تقيل، قلت لأم محمد:
“كان عندك بن، سوي لي كباية جبنة.”
نظرت لي أم محمد طويلًا، وراسها يميل قليلًا للوراء:
“عندك فتور؟”
لاحظت أنها حافظت على مسافة بيني وبينها، وضعت كباية الجبنة وجلست على حافة السرير:
“بطنك مكركبة؟”
وبما أنني زول مسلّط، قررت أجهجه شريكة حياتي. منه جهجهة ومنه اختبار للعشرة والمحبة القديمة.
قلت ليها: “تعرفي؟ بطني ليها ساعة تعبانة، مشيت الحمام مرتين.”
هنا وقفت أم محمد متحفزة لانسحاب تكتيكي بغرض التموضع في مكان آخر، وخاطبتني واضعة مسافة:
“ده كلو من شراب الشاي في الشارع! قدر ما قلت ليك اعمل حسابك ما اشتغلت بي كلامي، آها الليلة خم وصر!”
قبل كده لمّا نصحتك، وقعدت تتذكر لي في كلام قديم، ولفت ودرت، لمن جابت لي سيرة شكلتنا ديك قبال عشرة سنين، لمن سمعت من وين ما عارف إني مفكر أتزوج عليها، اليوم داك حلفت مصحف إنو مافي كلام زي ده، وإنها أم العيال و….. إلخ.
فجأة، لقيت الحوار لحق مفاوضات جدة، والزولة اتعنتت ورفضت تقعد معاي في بيت واحد!
دخلت تلملم في هدوئها، ودخلت أحنّس:
“يا زولة، في طولك، في عرضك، هسي الجاب سيرة العرس شنو؟”
هسي ده كله بسبب بطني المكركبة؟
المهم، لقيت نفسي لازم أقطع التمثيلية وأعترف إنو بطني ساخ سليم والحمد لله.
لكن يا أم محمد، الفيك انعرفت!
خرجت عصر اليوم لأمارس عادتي القديمة بالجلوس أمام البيت، أبحلق في الجاي والماشي. وليتني ما خرجت، فقد تنامى لسمعي صوت بكاء بعيد.
إن شاء الله خير. وقفت على طولي، راخيًا أذني، والصوت بدأ يقترب أكثر فأكثر حتى تيقنت أنه ليس بعيدًا.
هوي يا ولد تعال! البكاء ده وين؟
“ديل ناس خالتي الحرم، بتها سهام ماتت بالكوليرا، وشايلين الجنازة يدفنوها.”
براحة، شلت الكرسي ودفرت الباب، ودخلت أحوقل.
أم محمد سألتني: “مالك رجعت طوالي؟”
بصراحة، ما كان عندي أي رغبة في الحديث.
دخلت غرفتي أجر نفسي جرًا ناحية السرير.
يا الله، لقد طال اختبار الصبر، وانحنى الظهر من فرط الهموم، وما تزال الحرب تنهش في العظام، وترتوي من عطش الوريد.
سبحان الله، دخلت بذرة عشرة طائرة من الباب، أخذت تدور في الغرفة كأنما تبحث عن مفقود لها، ثم خرجت مسرعة من الشباك.
فقط شجر العشر هو الذي ينمو في زمن الحرب.
كل الطرقات عشر، داخل المنازل عشر، العشر في كل مكان.
بعد أن تنتهي الحرب، لازم الواحد يفكر في علاقة العشر شنو بالموت وغياب البشر.
منذ الأمس، عدم البيت من جرعة ماء.
ولو كان الجسد مثل الصلاة، لأشبعناه تيممًا.
اليوم، بعد صلاة الصبح، خرجت أحمل (جركانة) لعلّي أظفر بنصفها أو ثلثها ماء.
لكني فوجئت بالعشرات، أطفال ونساء وأمم أمثالنا في الشارع، يطلبون الماء.
قالوا ليك في مسؤول كبير في البلد قال الموية سبب الكوليرا، فقام قفل البلف، قال:
“أحسن الناس تموت عطشانة ونظيفة بدل البهدلة. نقول لي دول العالم شنو، لمن يقولو لينا علاقة الكرامة بالكوليرا شنو؟”
وأهو نحن في الآهات غرقنا.
الظهر أذن، والناس مكسرة قدام ماسورة الصافي.
هو الصافي؟ طلع من أول أيام الحرب، قاعد وين؟ ما عارفه.
لكن مرة دخلت صفحته، لقيته كاتب: “بل بل بل” وخاتي صورة وجدي صالح، وكاتب: “تعال بيتك كنتقدر!”
الجرادل والمواعين تطاقش، ناس تسلم وناس ترد، وأغلبنا واقف يعاين بدون تعليق.
ظهرت ركشة فيها 3 عساكر شايلين موية، قالوا جايين من البحر، ماشيين الارتكاز.
اتفقنا ناجر حافلة نرد البحر، لكن فجأة كورك واحد من الأولاد:
“شخرت! والله العظيم شخرت! شخرت شخرت!”
هو شنو الشخرت؟
شوية، والجميع ليس على ألسنتهم غير كلمة “شخرت” همسًا وعلانية.
اقتربت من أحدهم: “هي شنو الشخرت؟”
قال لي: “الماسورة!”
آها، وطيب؟
“ما هو يا حاج، لمن تشخر، معناها في احتمال الموية تجي.”
آها، يعني ما نأجر حافلة؟ ولا نأجر؟ ولا نعمل شنو يا ناس؟
وهنا، لمت نفسي لمن كنت بفتح فيديو الزول البتكلم داك (بقينا ما فاهمين الوضع ولا الوضع ما فاهمنا…)
رجعت لي حجري، قعدت، وبقيت أخطط في الأرض، وأرسم مربعات وأمسحها، وأكتب كلمات وأمسحها، ومرات أمسح المسحتو وأملّس التراب بيدي.
وفجأة، اتخلعت من المفاجأة لما لقيت نفسي بكتب:
“كأني مديون للعذاب وبدفع آخر سنين من عمري دين.”
Leave a Reply