
بقلم: طارق عبداللطيف أبو عكرمة
مقدمة:
“العدالة ليست قانوناً يُسنّ، بل شعوراً يُعاش.” هذه المقولة، التي قد تبدو لأول وهلة ذات طابع وجداني صرف، تُعبر في جوهرها عن أحد أكبر التحولات المعرفية التي نحتاجها اليوم لإعادة تعريف الاشتراكية — ليس كمنظومة توزيع للثروة، بل كأفق أخلاقي–وجداني ينتمي إلى الإنسان قبل أن ينتمي إلى البنية. فما بين قوانين العدالة المكتوبة ووجدان الناس، هناك فجوة لا تردمها المحكمة، بل يردمها الإدراك الجمعي للإنصاف، والقدرة على الشعور به.
وفي زمن نُعيد فيه النظر في المفاهيم الكبرى — كالسلطة، والحقيقة، والهوية — بات لزامًا أن نعيد تعريف العدالة لا بوصفها نصاً قانونيًا أو مبدأً أخلاقيًا مجردًا، بل كـ”خبرة شعورية” تتقاطع فيها النفس والسياسة، والتاريخ والمصير، والمركز والهامش. وهذا المفهوم هو أحد المفاتيح الأساسية في ما يمكن تسميته بـ “الاشتراكية المعاصرة” التي لا تكتفي بالاقتصاد السياسي، بل تتطلع إلى الاقتصاد العاطفي للعلاقات الاجتماعية.
_*أولاً: من العدالة كمجرد إلى العدالة كخبرة*:
لطالما انشغل الفلاسفة السياسيون من أرسطو إلى جون رولز في رسم “صيغ عادلة” لتوزيع الحقوق والموارد. غير أن هذه الصيغ — على أهميتها — أغفلت ما يسميه بعض علماء النفس السياسي بـ”العدالة الشعورية”: أي إدراك الناس لما إذا كانت حياتهم عادلة، وما إذا كانت معاملاتهم اليومية تحمل كرامة، واحتراماً، وتوازناً بين الذات والآخر.
في هذا السياق، العدالة ليست ما يُقال في المحكمة، بل ما يُقال في القلب. إنها تتجلى في لحظة شعور عامل النظافة بأنه مواطن لا مهان. أو حين يشعر اللاجئ في معسكر النزوح أنه لا يُعامل كفائض إنساني، بل كجزء من الحياة العامة. إنها تُقاس بنظرة الحارس لعين السجين، قبل أن تُقاس بأوراق القاضي.
_*ثانياً: الإنصاف كحس داخلي لا كامتثال خارجي*_/
في الاشتراكية الكلاسيكية، تُختزل العدالة في التوزيع: من يملك، ومن لا يملك. أما في الاشتراكية( المعاصرة)، فالسؤال الأعمق هو: من يشعر بأنه يُعامَل بإنصاف؟ كيف نحترم شعور الكرامة النفسية، والمكانة الاجتماعية، والاعتراف الوجداني، بصرف النظر عن العائد المادي فقط؟
إن العالم الرقمي، وموجات الذكاء الاصطناعي، والتحولات السريعة في طبيعة العمل، أدت إلى تضخم *فجوة “الاعتراف”* — حيث بات الفرد يشعر بأنه غير مرئي، غير مُقدَّر، حتى لو حصل على الحد الأدنى من الموارد. وهذا ما يدفعنا إلى أن نُعيد تعريف العدالة كعملية نفسية–اجتماعية، لا فقط قانونية–مادية.
_*فالعدالة الحديثة تُطالَب اليوم بأن تشمل:*_
*العدالة الانفعالية:* هل يشعر المواطنون أنهم محبوبون، مسموعون، محترمون؟
*العدالة الإدراكية:* هل يُتاح للناس فهم النظام الذي يعيشون فيه؟ أم أن الغموض والتعقيد يحجبان عنهم معنى الحياة العامة؟
*العدالة الرمزية:* هل يشعر الأفراد أن ثقافتهم،و لغتهم، ولباسهم، وتاريخهم معترف به في الفضاء العام؟
_*ثالثاً: الاشتراكية كإطار عاطفي للإنصاف*_
في ضوء هذا التحول، تصبح الاشتراكية( المعاصرة) مشروعًا لتوسيع معنى الإنصاف، لا فقط في الاقتصاد، بل في الوجدان العام. إنها تفترض أن “الاستغلال” ليس فقط سرقة فائض القيمة، بل سرقة الاعتراف، وسرقة الانتماء، وسرقة المستقبل.
من هنا، لا يمكن أن تكون العدالة مجرد نص يُسنّ، *بل يجب أن تكون بيئة تُبنى* — في المدرسة، في الشارع، في العمل، في العلاقات الاجتماعية. *فمجتمع الإنصاف ليس ذاك الذي يساوي الجميع في الدخول، بل ذاك الذي يجعل كل فرد يشعر بأنه “مرئي” و”مسموع” و”ذي قيمة”.*
*رابعاً: تطبيقات ممكنة — من التعليم إلى السياسة*
إذا أخذنا العدالة كخبرة شعورية على محمل الجد، فإننا نحتاج إلى إعادة تصميم سياساتنا العامة كالتالي:
*في التعليم:* لا يكفي توزيع الكتب والوجبات، بل يجب تأمين بيئة يشعر فيها كل طالب بأن هويته مقبولة ومُحتفى بها، لا موصومة أو مُحايدة.
*في الاقتصاد:* لا يكفي توسيع فرص التوظيف، بل يجب احترام الكرامة النفسية للعمال — الحد من الإذلال، التضييق، واللامبالاة.
*في السياسة:* لا تكفي مشاركة الأحزاب، بل يجب أن يشعر المواطن بأن صوته يحدث فرقاً، وأن خطابه ليس مجرد ضجيج.
_*خاتمة: نحو عدالة تسكن الشعور لا الوثائق*_
في زمنٍ تتآكل فيه الثقة العامة، ويختل فيه ميزان الكرامة، تصبح إعادة تعريف العدالة كخبرة شعورية ضرورة لا ترفاً. *الاشتراكية( المعاصرة) لا تعني فقط “إعادة توزيع”، بل تعني “إعادة اعتراف”* . *وهي ليست وعدًا بالمساواة فقط، بل وعدٌ بوجودٍ معنوي.*
ولعل أعظم فشل للأنظمة التي ادعت أنها “عادلة”، أنها جعلت العدالة قانونًا يُتلى، لا شعورًا يُعاش. أما الاشتراكية (الجديدة)، فهي تُعيد إلينا هذا الشعور، لا عبر قوة الدولة فقط، بل عبر إحياء الحواس المشتركة، والاعتراف العاطفي، والكرامة الداخلية.
كما كتب ألبرت كامو: “لا توجد عدالة، إذا لم يشعر بها الإنسان.” — وهنا يبدأ التحول.
Leave a Reply