ظل بين الأشجار

د. أشرف مبارك أحمد صالح

بعد سنوات من الكد، وبعد أن استقر بنا المقام في هذا المهجر الأوروبي، اقترحت عائلتي في إحدى العطلات أن نخرج للتخييم قرب إحدى الغابات والبحيرات. خرجنا، ولكن لم نصل بسرعة لأننا تهنا قليلًا.

لما وجدنا المكان أخيرًا، نصبنا الخيام وجهزنا العشاء، وأحسست براحة غريبة… الجو هادئ، والغابة من حولنا بدت كأنها تنصت لنا بصمت ثقيل. النجوم تتلألأ فوقنا، والبحيرة تنام بهدوء، عاكسة وهج النار المتكسّر أمامنا.

قال ولدي الكبير: “الضلام هنا بيخوف شوية، خاصة لو مشيت بعيد.”

ضحكت وقلت لهم: “عايزين تخافوا جد؟ خلوني أحكي ليكم قصة حصلت لي زمان… في حتة برضو كانت كلها ضلام، لكن مش زي الضلام دا… داك كان زي كائن حي، بشم فيك وبحاول يبتلعك…

الليلة كانت مظلمة لدرجة مخيفة. لو مددت يدك أمامك لم تكد تراها. كنا راكبين عربة بوكس بيضاء، لوحاتها صفراء. كنا عائدين من مهمة رسمية. كان الطريق ترابيًا، لم تكن الطرق في تلك المنطقة في ذلك الزمن معبّدة. وكان كل ما يدل على الطريق في ذلك الخلاء هو أثر إطارات الشاحنات والعربات المحفور على الأرض الترابية أو الطينية.

جعفر كان يقود، وأنا وعطا بجانبه، أما الزين فكان في الخلف في صندوق البوكس.

أنوار العربية كانت تشق العتمة مثل سكين. كان جعفر يقود بثقة، لكنني أحسست أن هناك شيئًا ناقصًا… شيئًا ليس في محله.

فجأة صرخ عطا: “نحن في حقل ذرة!” السيقان كانت طويلة، خضراء، والعربة بدأت تهتز بينها. حاول جعفر أن يخرج، لكن الطريق اختفى… ببساطة، اختفى.

تلال ظهرت أمامنا، كأنها تزحزحت من مكانها، وقال الزين بصوت خافت متهدج : “هذا ليس الطريق.”

وفجأة، ظهرت نار صغيرة تومض من بعيد… قلت: “هناك! قرية!” لكن جعفر قال: “سيبك منها.” سألته: “ليه؟” قال عطا: “الضلام دا ما طبيعي، مافي قرية هنا.” قال جعفر: “دا أبو لمبة.”

والله لما نطق الاسم دا، حسّيت الدنيا بردت فجأة. ما كنت فاهم، لكن عطا والزين كان واضح عليهم إنهم عارفين الاسم دا كويس.

النار قربت… أحسست كأنها تتحرك نحونا. صاح الزين: “انحرف!” انحرف جعفر بقوة، دخلنا مرة أخرى في حقل الذرة، كأننا ندور في دائرة. الزين طالع السماء، ونظر إلى النجوم، وقال: “أمشوا هناك.”

الزين كان دايمًا يقول إنه بيعرف الاتجاهات من حركة النجوم.

وقتذاك… رأينا رجلًا، يلبس قميصًا أصفر، وبنطالًا أبيض، وشعره مرجل كأنه ذاهب إلى حفل. كان واقفا على جانب الطريق، وأشار إلينا لنتوقف.

قلت: “توقف! يمكن من أهل المنطقة ويدلنا على الطريق.” لكن عطا صرخ: “لا!”

جعفر ضغط على دواسة البنزين، وطارت العربة طيرانا. ضرب الزين سقف العربة: “أسرع! أسرع! دا بلحقنا!”

التفت… رأيته يجري بسرعة… كأن رجليه… ما كانتا رجليه.

قلت: “يا جماعة الزول دا كأنو واقف من قبيل وما صدق لقاكم!” لم يرد علي أحد. أمسك الرجل بصندوق العربة، رفع الزين الجاروف وضربه، وسمعنا صوتا… صوت عواء لن أنساه أبدًا. وبعد ذلك… اختفى.

صرخ الزين: أنا شفت كرعينه كرعين حمار.

سكتنا. ما في زول قال كلمة. بدا الخوف واضحًا على الوجوه.

سألت: “دا شنو؟”

جعفر قال: “دا بيظهر في الليالي المظلمة، يضلك عن الطريق… وبعدين…” وسكت.

واصلنا السير… والنجوم فوقنا أصبحت أكثر بريقًا، كأنها تراقبنا، أو أنها كانت شاهدة على شيء لا نفهمه.

وسكت.

لاحظت أن النار خفتت قليلًا… جاء ولدي الصغير وجلس قربي، والتصق بي، وقال لي: “يعني ممكن يظهر هنا؟”

فضحكت وقلت له: “لو بعدت من الخيمة… ممكن جدًا.”

نظرت إلى الغابة كأن هناك ظل بين الأشجار.

2014

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.