
إنصاف الشفيع
إهداء
إلى (التومة)؛ بائعة الشاي والقهوة أمام مبنى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بالقاهرة..
إلى أستاذ محمد -المربي الجليل، الذي حمل لعديد أعوام، مسؤولية البحث عن مستقبل أفضل لأجيال متوالية- وحفيده مجتبى.
إلى الذين شردتهم الحرب في السودان فتركوا أرض أجدادهم وطرقوا أبواب اللجوء أملًا في الحصول على وطن بديل.
إلى كل من اختار البقاء رغم جحيم الحرب والظلم والهوان.
(1)
أخي الحبيب، هشام..
لعلك تستغرب لكتابتي هذه
الرسالة، فأنا أحادثك عبر التلفون بصورة يومية.. أو أراسلك عبر تطبيق الواتساب مرات عديدة.. لكننيّ هذه المرة أحسست بالرغبة في كتابة رسالة عادية وعبر البريد كما كنا نتراسل في فترة ما قبل انتشار الإنترنت.. وأنا -كما لا شك أنك تذكر- كنت أحب كثيرًا كتابة الرسائل وقراءتها
أذكر آخر لقاء بيننا وأنت توصلني إلى مطار الخرطوم والناس حينها تستعد لاستقبال شهر رمضان.. كان يومًا غريبًا.. بدت فيه شوارع الخرطوم وكأنها تحاول إخباري بما سيحدث.. زحمة غير معهودة حتى في أوقات الذروة.. وصلنا المطار بجهد بالغ.. أوقفت عربتك وأسرعت بحمل حقائبي وأنا ألهث خلفك.. تذكرنا، أنت وأنا قصة صديقتنا المشتركة يوم إعلان نتائج امتحانات الكلية وركضها خلفك وهي تمسك بطرف قميصك.. ضحكنا كثيرًا لهذه الذكرى قبل أن تودعني.. ولم تفلت يدي قبل أن تكرر عليّ بضرورة الاتصال بمجرد وصولي إلى القاهرة.
الآن تنساب دموعي بلا توقف وأن أتأمل صورة لمطار الخرطوم في أيام الحرب الأولى .. هناك كنت تقف ملوحًا بكلتا يديك.. لم يدر بخلدي في تك اللحظات أنك، لم تكن تودعني وإنما تودع هذه المباني، التي صارت أثرًا بعد عين.
هل كنت مثلي يا صديقي تظن أنك ستأتي لاستقبالي وأنا عائدة للخرطوم بعد شهرين من هذا اللقاء؟
أم تراك فطنت كعادتك دائمًا إلى أن بالأمر شيئًا غير ما يبدو عليه؟
لكنك لم تبح به خوفًا على
عزيزي هشام…
أتذكر كم مرة انزعجت لأمر ما فسارعت بالاتصال بك دون تفكير؟
وفي كل أوقات اليوم.. فأنا أذكر أننيّ فاجأتك بتلفون قبل السابعة صباحًا لأننيّ كنت منزعجة جدا لأمر
آخر.. لا أذكر تفاصيله الآن .. ومرة اتصلت مساءً لأطلب عونك في أمر ما مع علمي بأنه صعب عليك مغادرة منزلك حينها.. لكنني كنت على يقين بأن مجرد الحديث إليك سيبدد مخاوفي.
هذه المرة.. الأمر يختلف تمامًا.. فأنا أدري أن الحديث في زمن الحرب لا يشبهه حديث.. لكننيّ رغم ذلك احتاج لأن أسمع صوتك ليهدئ من روعي.. كتبت لك مرة حين تعذر الاتصال وأكتفينا بالرسائل، أننيّ بحاجة لأن أسمع صوتك.. فأرسلت إلىّ رسالة صوتية.. سمعتها وأنا أنتحب.
(2)
لا يخلو شارع في القاهرة أو وسيلة مواصلات فيها، من سوداني أو سودانية ياهشام.. جلست ذات مرة على مقعد بالمترو.. جلس قبالتي مجموعة من الشباب.. جاءتني أصواتهم وضحكاتهم عالية.. لم أهتم لأحاديثهم فقد كان عقلي وقلبي مشغولين بما يحدث في السودان فجأة التقطت أذناي ضحكة خافتة وتمتمت صاحبتها (قلت شنو؟) نظرت ناحية مصدر الصوت..لأرى فتاة سودانية جميلة الملامح.. احتضنتها بنظرة باسمة وأنا أتوجه مغادرة مكاني استعدادًا للنزول في المحطة القادمة.
(3)
أتذكر يا هشام، كم من المحطات سرناها معًا؟.. الآن أفتقد وجودك قربي.. رغم أننيّ أحسك دومًا معي..
جلست صامتة في مقعد أمام سيدة تبدو في العقد السادس من عمرها وطلبت كوبًا من القهوة.. حيتني بابتسامة تنضح طيبة وسألتني (سكرك كيف؟).. أشرت بأصبعي وكأنيّ قد فقدت النطق.. أردفت (جاية من السودان؟) سبقت دموعي لساني.. أن نعم.. حينها أجهشت المرأة بالبكاء.. لم أتمالك نفسي.. أنا وكل من كان يجلس بالقرب منا.. أحسست وكأننيّ جالسة في مأتم.. الوجوه الكالحة، العيون المحمرة من كثرة البكاء.. على مقربة منا يجلس عدد غير قليل من الرجال والصبية والأطفال.. تدور أحاديث متفرقة معظمها عن الحرب وكيفية الخروج من السودان وعن أمل العودة وصعوبة الغربة والخوف من اللجوء.. تذكرتك حينها يا هشام وتذكرت رفضك لعروض العمل خارج السودان بكل مغرياتها.. حمدت الله على أنك لم تضطر حتى هذه اللحظة للمرور بتجربة الاغتراب.. ودعوت الله حينها أن يعينك على الصمود في هذه الظروف القاسية.
(4)
قادتني الموظفة الشابة إلى داخل المبنى، طلبت منيّ الجلوس والانتظار لدقائق.. تلفت لاختار مكانًا للجلوس.. قادتني قدماي لاشعوريًا لأجلس قرب من سيدة ترتدي الثوب السوداني.. زالت الرهبة، التي أحسستها حين دخلت المبنى لأول مرة بمجرد أن أفسحت لي السيدة لأجلس بجوارها.. بدت وكأنها تعرفني وشرعت في إكمال حديثها.. وكأننيّ كنت متابعة له منذ البداية.. لا أدري كيف بدا لي أننيّ أعرف تفاصيل قصتها وأعرف نهايتها.. لكننيّ تركتها تسترسل في الحديث.. فهي بحاجة لهذا الحكي أكثر من أي شيء آخر… لكن في هذه اللحظة.. شد انتباهي حوار دائر بين موظف وأسرة سودانية.. كان يبلغهم بقرار منحهم إقامة في كراكاس.. (كراكاس؟؟) رددتها بدهشة ثم بخوف.. ما أبعدها عن النيل…..
تبعتهم عيناي بعد أن ابتعد ثلاثتهم عن مكان جلوسي ولم يعد بإمكاني سماعهم… أحسست بحزن عميق.. تراني أسعد بخير كهذا؟.. التفت إليّ حيث كانت تجلس محدثتي.. لم أجدها .. ربما انتقلت إلى مكان آخر لتجد من يستمع إلى حكاويها الحزينة.
آهٍ يا هشام…
أحسست بقدمي تثقلان ولا تقويان على حملي.. ما الذي أفعله هنا؟
ولماذا جئت إلى هذا المكان؟
هممت بالمغادرة.. تلفت حولي ونهضت ليجئني صوت الموظفة التي أدخلتني (اتفضلي يا مدام)..
بخطوات متثاقلة اتجهت نحوها..
“محطة..محطة بتذكر عيونك ونحن في المنفى…
وبتذكر مناديلك خيوطا الحمرا ما صدفة…
وبتذكر سؤالك لي متين جرح البلد يشفى..
ومتين تضحك سما الخرطوم حبيبتنا ومتين تصفا؟؟!!”
الزقازيق/مايو 2023
Leave a Reply