الطير الخداري… سياحة في السهل الممتنع

أمجد أحمد السيد

في كل مرة نعود فيها إلى قصائد إسحق الحلنقي نشعر وكأننا نقرأ لأول مرة تتجدد الدهشة وتستعيد أرواحنا وهج البدايات فالرجل يكتب بما يشبه التنفس ببساطة ساحرة لا يقدر عليها إلا من امتلك ناصية الشعر ووجدان الناس ومن بين أجمل ما كتب، تظل الطير الخداري قصيدة تختزل أزمنة من الحنين وتحكي بحس شعري مرهف عن الحب والوطن والرحيل والفقد.

يبدأ النص بنداء للطير الخداري ذاك الطائر الذي لطالما حمل رمزية الرسائل والذكريات في الثقافة الشعبية السودانية يخاطبه الشاعر كأنما يبعثه في مهمة وجدانية
قول ليه يا الطير الخداري / قول ليه وحيات حبنا…
هنا يتحول الطائر إلى رسول للحب المفقود، ولحكاية لم تكتمل.

ومع كل بيت، يأخذنا إسحق الحلنقي في رحلة إلى كسلا الوريفة المدينة، التي يسكنها الجمال والنقاء في ذاكرة الشاعر. هي ليست فقط مكانًا بل رمز للطهر والعذوبة والطمأنينة
يا حليل كسلا الوريفة / الشاربة من الطيبة ديما
فالقصيدة تنبض بحنين عارم لمكان أصبح معادلًا شعريًا للحبيبة أو ربما للوطن أو لكليهما معًا.

في الطير الخداري لا نجد الحب بمعناه الرومانسي فقط بل الفقد كحالة وجودية يقول الشاعر عن الفراق
والفِراق بتقول عيونو / قِسمة… ما كان لا اختيارو
كأنما يرثي الغياب الإجباري لا عن الحبيب فقط بل عن الذات والمدينة والأمل

وتبلغ الأغنية قمة شجنها حين يشارك الطبيعة في الحزن
وحتى السواقي بكت معاي / وشاركت في وداع قطارو
بهذه الصورة ينجح الحلنقي في جعل الجغرافيا كائنًا حيًا يتألم ويشعر ويودّع

ليس من السهل أن تكتب ببساطة دون أن تقع في فخ التبسيط لكن إسحق الحلنقي ينجح دائمًا في تقديم ما يمكن أن نطلق عليه السهل الممتنع مفرداته مألوفة لكنها تلمع تحت ضوء المعنى وتفاجئك بأعماقها إنه شاعر يعرف كيف يُبقي اللغة قريبة من القلوب دون أن يتخلى عن الشعرية العالية

لقد غنى هذه القصيدة العديد من الفنانين لكن ما بقى في الوجدان هو النص ذاته بما يحمله من صدق ودفء إنساني
ويا حبايب الريّد قطارو / أَخروه شوية لينا…

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.