العروبة في الوعي السوداني… بين العرق والثقافة

في خضم النقاشات المتكررة حول الهوية في السودان، يعود سؤال العروبة ليحتل موقعا مركزيًا هل العروبة عرق ونسب؟ أم هي انتماء ثقافي ولغوي؟ وبين من يتمسكون بفكرة “العروبة العِرقية”، ومن يوسعون أفق الفهم إلى أن العروبة فضاء حضاري مفتوح، تضيع كثير من الحقائق في زحام التحيّزات والموروثات. لكن الأهم من كل ذلك أن هذا النقاش لم يعد رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية لمجتمع يعيش صراعا هوياتيا مركبا.

من الشائع في الوعي الجمعي السوداني للأسف أن العروبة محصورة في “الدم” و”النسب”، وأن من لا ينتمي إلى قبيلة تدّعي نسبا إلى عدنان أو قحطان، لا يُعد “عربيًا حقيقيًا”. ويستدل أنصار هذا التصور بسلاسل أنساب القبائل التي تقدّم العروبة كوراثة بيولوجية، لا انتماءًا ثقافيا.
لكن هل هذا الفهم للعروبة دقيق؟ وهل ينسجم مع التاريخ والتعدد السوداني؟ أم أنه مجرد رواية واحدة من بين روايات أخرى أكثر عدلا وشمولا؟
العروبة ليست عرقا… بل ثقافة ولغة وفضاء مشترك
العروبة، كما يفهمها المفكرون المعاصرون، ليست انغلاقا على نسب محدد، بل هي هوية ثقافية تشكلت عبر قرون من التفاعل اللغوي، الديني، والحضاري. وقد دخل في إطارها شعوب كثيرة من غير أصول عربية صرفة، عبر التفاعل مع اللغة العربية، والارتباط بتاريخ المنطقة ورمزياتها الثقافية.
العروبة هنا ليست بديلا للهوية الأصلية، بل إضافة إليها. فالكردي، والنوبي والأمازيغي والزنجي يمكن أن يكونوا عربا باللسان والثقافة دون أن يُطلب منهم التخلي عن لغاتهم وثقافاتهم الأصلية. فالهويات لا تلغي بعضها، بل تتكامل وتتقاطع، وهذا هو جوهر الهوية المركبة.

لماذا نتمسك بفكرة العرق؟

ما يدعو للأسى أن الكثير من السودانيين، رغم كونهم في مجتمع متعدّد إثنيا وثقافيا، ما زالوا يُصرّون على أن “العربي هو من كان نسبه عربيًا”، في تجاهلٍ تام لطبيعة الهجنة السودانية، ولمفهوم المواطنة والانتماء الثقافي.

هذا الفهم يكرّس التمييز، ويعيد إنتاج الطبقات، ويمنعنا من بناء وعي وطني متسامح وشامل، يعترف بجميع مكونات البلاد بوصفها شريكة في صناعة ماضٍ ومستقبل مشترك.

هل هناك ثقافة عربية؟

يقول البعض إن ما يُسمى “الثقافة العربية” غير موجود، لأنها عبارة عن خليط من ثقافات محلية مختلفة. لكن هذا الطرح يتجاهل أن اللغة العربية – رغم تنوع لهجاتها – تُشكل جسرًا موحدًا بين الشعوب الناطقة بها، وتحمل في طياتها رموزا، ومخزونا شعريا، وقيما أخلاقية، وخبرات جمعية، تجعلها أكثر من مجرد وسيلة تواصل، بل حاملة لهوية ثقافية جامعة.

صحيح أن هناك ثقافات عربية (بالجمع)، لكنها تشترك في مرجعيات كبرى، من المعلقات إلى القرآن الكريم، ومن الشعر العباسي إلى الرواية المعاصرة. وهذا التشابك لا يلغي التنوع، بل يحتضنه.

نحتاج في السودان إلى تفكيك الرواية العرقية للعروبة، وإعادة بنائها على أسس ثقافية وإنسانية عادلة.
ليس لأن العروبة أرقى، ولا لأنها غاية في ذاتها، بل لأنها إن فُهمت كهوية ثقافية منفتحة، قد تُساهم في صياغة مشروع وطني جامع، يتجاوز الإقصاء والفرز على أساس النسب.
آن لنا أن نخرج من ضيق العرق إلى رحابة الثقافة، ومن تقديس الدم إلى تمجيد العطاء والانتماء الطوعي. فبذلك فقط نمضي للأمام.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.