
بقلم: طارق عبد اللطيف ابو عكرمة
في لحظة مفصلية من التاريخ العربي، تبدو الحاجة إلى استئناف مشروع الوحدة القومية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. غير أن محاولة بعث هذا المشروع لا يمكن أن تتم بالأدوات التي صاغته في القرن الماضي (وحدها فقط)، مهما كانت عظيمة في زمانها. فالتحولات العميقة التي اجتاحت المجتمع العربية، والعالم من حوله، تفرض على القوى النهضوية أن تعيد قراءة الواقع بعيون نقدية وبصيرة مبدعة، لكي تبتكر الوسائل الكفيلة بتحقيق الحلم القومي بلغة العصر، وأدواته، ومنطقه المتجدد. ليس مشروع الوحدة القومية في فكر البعث مجرد حنين إلى ماضٍ عاطفي، بل هو خيار مستقبلي، يستند إلى الإيمان بالوحدة والحرية والاشتراكية، ويقوم على إرادة (الشعوب) الحرة. ولهذا، فإن بعث الأمة العربية اليوم يقتضي مشروعًا عقلانيًا، متكامل الأبعاد، يتجاوز الحنين، ليصبح خطة نضالية ممنهجة. في هذا السياق، تبرز أدوات العصر بوصفها وسائل التحرر الجديدة: المنصات الرقمية القومية، التي تكسر احتكار الصورة والرواية، وتنقل الصوت العربي إلى العالم وللأجيال الشابة بلغات متجددة وأساليب تواكب العصر الرقمي. والدبلوماسية الشعبية، التي لم تعد تقتصر على الحكومات بل صارت من حق المجتمعات الحية، تصنعها كالاتحادات المهنية، والمنتديات الفكرية، واتحادات شباب وأكاديميين، تقوم بدور الدبلوماسية القاعدية الضاغطة نحو التعاون والوحدة وإذا كانت وحدة المصالح شرطًا لوحدة المصائر، فإن الاقتصاد الابتكاري المشترك يصبح حجر الزاوية لمشروع وحدوي معاصر. وتأسيس صناديق قومية لدعم الإبداع والابتكار، ومساحات عربية لريادة الأعمال، والمشروعات المشتركة بين الشباب العربي لكسر الحصار القطري، ولتعزيز المصالح الاقتصادية العابرة للحدود، وترسخ فكرة أن المستقبل العربي يُبنى بالتكامل لا بالتنافس العدمي. أما الثقافة والفنون، فلم تعد ترفًا أو ميدانًا هامشيًا، بل غدت الجبهة الأولى لصناعة الهوية والوجد، ودعم الإنتاج الدرامي والسينمائي والموسيقي العربي المشترك، لرواية مسارات التحرر والوحدة والاشتراكية بلغة إبداعية معاصرة تحاكي الوجدان العربي الحديث، لا بلغة الشعارات، بل عبر قصص إنسانية عميقة تستنهض الروح وتبني الثقة. في زمن الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبرى، يصبح من واجب المشروع القومي أن يتسلح بأدوات التخطيط الذكي. حيث لا يكفي أن نحلم، بل يجب أن نعرف بدقة أين يقف شعبنا، وما هي احتياجاته الحقيقية، وكيف نخطط، ونقيم، ونتقدم بخطى مدروسة، وبناء منظومات معلوماتية عربية، لتحليل الاتجاهات، واحتياجات الشعب العربي، والتخطيط الذكي لمشاريع وحدوية قابلة للتنفيذ الواقعي. فالمعرفة أصبحت قوة وحدوية بحد ذاتها، ومن يمتلك أدواتها يرسم المستقبل. لقد أثبتت التجربة أن الأمن العسكري وحده لا يصنع وحدة ولا استقراراً. وإن الأمن الإنساني، بما يشمله من ضمان الغذاء، والصحة، والتعليم، والكرامة، أصبح هو الركيزة الصلبة لأي وحدة مستدامة. وحين يشعر المواطن العربي، أينما كان، أن كرامته مصانة، وأحلامه محترمة، فإنه، طوعًا لا قسرًا، يندمج في مشروع وحدة شاملة. كما أن الامة العربية لا يمكنها أن تحقق وحدتها في عزلة عن قضايا العالم الكبرى. بل على العكس، ينبغي لها أن تكون كتلة مستقلة ذات موقف مشترك في قضايا التكنولوجيا والبيئة والطاقة والسلام، لتعيد فرض أنفسها كقوة حضارية لا يمكن تجاوزها. والتعليم، الذي كان ولا يزال الأداة الأعظم لصناعة الإنسان العربي، يجب أن يتجدد، لا بتلقين شعارات قديمة، بل بزرع قيم الانتماء القومي بأساليب نقدية تفاعلية، وتبني العقل، وتغرس حب العروبة بوصفها مشروعًا تحرريًا إنسانيًا. هكذا فقط، تتحقق الوحدة: لا بالفرض من فوق، ولا بالخطابات الحماسية، بل بالبناء التراكمي الواعي، عبر كل حقل من حقول الحياة. إن بعث مشروع الوحدة القومية اليوم هو تحدٍ حضاري بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وهو مسؤولية الأجيال الجديدة من البعثيين، الذين عليهم أن يحملوا شعلة الرسالة الخالدة بلغة عصرهم، وأدوات واقعهم، وعظمة إيمانهم. فالنهضة، كما علمنا الفكر البعثي، ليست ماضياً نندبه، بل مستقبلاً نصنعه. والوحدة اليوم لم تعد حلماً بعيداً، بل باتت سؤالاً راهناً ينتظر إجابة عملية، من جيل آمن بأن العروبة لا تموت، وأن إرادة الأمة العربية أقوى من أزماتها، وأن رسالة البعث الخالدة باقية لأنها جزء لا يتجزأ من نبض الحياة العربية نفسها. بالضرورة هناك مبررات منطقية تدعو الى إعادة التفكير بالأدوات والأساليب السابقة، مع الانفتاح واستصحاب ما فرضته الحياة الإنسانية والمعرفة، فتتمثل هذه المبررات في التالي:
1. البعث بطبيعته حزب فكري حضاري، لا حزب شعارات: – مشروع البعث لم يكن يومًا مجرد كيان سياسي، بل مشروع نهضوي شامل. ولأن أدوات الواقع تغيرت (من الإعلام التقليدي إلى الرقمي، من الجيوش التقليدية إلى حرب الأفكار)، فإن حزبًا فكريًا مثل البعث يجب أن يتقدم ليقود التغيير بأدوات العصر، لا أن يكتفي بحنين إلى الأدوات الكلاسيكية.
2.. الروح البعثية تقوم على الإبداع المتجدد: – البعث في فكره العميق هو حركة تغيير دائم وتجديد دائم للأمة العربية من أجل أهدافها الخالدة (الوحدة والحرية والاشتراكية). لهذا، استخدام أدوات حديثة (كالذكاء الاصطناعي، الدبلوماسية الشعبية، الاقتصاد الابتكاري) هو انسجام مع روح البعث وليس خروجا عليها.
3. البعث يطرح الوحدة إرادة شعبية لا قسرية: – وكل الأدوات التي تم ذكرها (من الحوار الثقافي، والتعليم العصري، والتواصل الرقمي) هي بالضبط أدوات لبناء الإرادة الشعبية الحرة للوحدة، وليس فرض الوحدة بأوامر فوقية.
4. البعث يؤمن بقوة الجماهير الواعية: – والجماهير اليوم أصبحت تتشكل وجدانها ومواقفها عبر وسائل حديثة: الإعلام الرقمي، والشبكات الاجتماعية، والثقافة البصرية. بالتالي، إذا لم يواكب البعث هذه الأدوات سيتراجع تأثيره الجماهيري، وهو الذي يؤمن أن الجماهير هي المحرك الحقيقي للتاريخ.
5. البعث مقاومة ومشروع تحرر: – وأدوات المقاومة الحديثة ليست فقط السلاح، بل المعلومة، والصورة، والرأي العام العالمي. التكتل الاقتصادي العربي مثلاً هو شكل جديد من أشكال “المقاومة البعثية” أمام الغزو الاقتصادي والسيطرة الأجنبية.
الخلاصة: إن بناء مشروع وحدوي بعثي حديث لا يتطلب فقط الإيمان بالمبادئ، بل تجديد الوسائل وابتكار الأدوات التي تليق بوعي هذا العصر وطبيعة تحدياته. فالوحدة اليوم لا تُفرض من فوق، بل تبنى من القاعدة، بالتكامل، بالثقافة، بالاقتصاد، بالتكنولوجيا، وبالشعور القومي العميق الذي يحول الحلم إلى واقع. فالأدوات الحديثة التي ذكرت ليست فقط صالحة للبعث، بل هي امتداد عصري للفكر البعثي الحقيقي، بشرط أن تُستوعب ضمن منظومة فكرية واضحة، وتخدم أهداف البعث الكبرى: في الوحدة، الحرية، الاشتراكية، والنهضة الحضارية.
Leave a Reply