
إنصاف الشفيع
(عن السنة الثالثة في الجحيم، وبصيص أمل)
أحقًا دخلنا (سنة تالتة) حرب؟ وما استوعبنا درسًا واحدًا؟
وهل مرّت كل هذه المدة وما استطاعت عقولنا أن تهتدي إلى حل يكون بمثابة شمعة تنير عتمة أيامنا؟
لم أحب السياسة يومًا ولا أفهم تعقيداتها ومصطلحاتها.. ولا يجذبني الحديث عنها لكنني أهتم بنتائجها حين تمس حياة أهلي وأرض بلادي… اهتم بها حين تفرض علي واقعًا لم اختره إلا مكرهة… اهتم بها حين تحول بيني وبين أحبابي.. أتابع نشرات الأخبار والبرامج السياسية مرغمة.. محاولة أن أفهم ما يدور في بلادي… وكيف أضحى حال الملايين من أبنائها داخل وخارج أرض الوطن.. جفّت عيوني من كثر ما ذرفت من دموع… بكيت في أول يوم للحرب كما لم أبك من قبل… لكنني لم أعتقد بتاتًا أن ما رأته أعيننا وسمعته آذاننا ذلك اليوم هو غيضٌ من فيض… وأن ما فقدناه ذلك اليوم سنفقد أضعافه مضاعفة من الأرواح والأموال.
أكثر من عامين ولا أحد يدري متى تكون النهاية ولا كيف لكننا جميعا نعلم علم اليقين أن السودان ما عاد هو السودان…
لقد فقدنا مع كثير مما فقدنا، ذلك الأمل الذي كنا نتمسك به حتى في أحلك اللحظات، التي عشناها… أمل أن ينهض السودان من غفوته الطويلة وأن يكون (علمًا بين الأمم)،
ليلح على هذا السؤال… ماذا نحن فاعلون من أجل السودان؟
كلنا بلا تمييز… نحن جميعًا ابناؤه على اختلاف سحناتنا وألواننا…على اختلاف توجهاتنا السياسية ومعتقداتنا الدينية.. على اختلاف لغاتنا ولهجاتنا… نحن السودانيين… الذين لم ينجُ واحد منا من ويلات هذه الحرب اللعينة… ماذا نحن فاعلون؟
في الأشهر الأولى للحرب عانيت كثيرًا من آثار ما يسمى في علم النفس ب(عقدة الناجي).. فقد قُدّر لأسرتي الصغيرة أن تكون خارج السودان في ذلك التوقيت… بينما كان معظم أهلي ومعارفي وجيراني بالداخل… ومازلت أعاني من هذه الآثار خاصة كلما سمعت أو رأيت شيئًا من فظائع الحرب وأحداثها الشنيعة… كنت لعدة أشهر أمني نفسي بانتهاء هذا الكابوس وأرى أن دوري في هذه المرحلة، أنا وكل من هو في مثل ظروفي، هو( أن نعيش)، مجرد تمسكنا بالحياة هو ما نستطيع فعله الآن… لكن مع دخول الحرب سنتها الثالثة أصبح لابد من فعلٍ واضح… لا يكفي مجرد بقاءنا أحياء… لابد أن يكون لكلٍ دوره تجاه السودان… كلٌ بما يستطيع.. ولكن مجرد أن نبقى أحياء هو أضعف الإيمان.
لابد أن لكل منا ما يجيده ويبرع فيه.. إذن فليفعله من أجل السودان وليدعو غيره للمساهمة لنتكاتف من أجل بعضنا البعض ومن أجل ووطننا، الذي انهكته الحرب وأوشكت على تمزيقه…
انها دعوة، لست اطلقها لتكون حبيسة مقال، أو صحيفة او فكرة في رأس أحدهم.. لكنها دعوة صادقة لكل سوداني وسودانية… أن تنادوا جميعا لإحياء قيمنا السمحة حتى لاتندثر… لا تجعلوا ما أفرزته الحرب من ظواهر سالبة ينمو ويتمدد بيننا.. وبرغم مرارة ما حدث لكل منا من قريب أو جار او حتى غريب ،دعونا نتسامى فوق الجراحات والمرارات، على صعوبة هذا الأمر، فلا درب سيخرجنا مرة اخرى الى النور غير ذلك… أعلم أن جهود مقدّرة تبذل خاصة من الشباب ليسمع العالم أصواتنا… لكنني أدعو لأن تعلو أصواتنا أكتر… ليكتب كل من يجيد الكتابة وليُشعر كل من يجيد الشعر وليغنى ويصدح بصوته من يملك صوتاً وليعزف وليرسم كل من له القدرة على ذلك ولتعلو اصواتنا وتعلو حتى تطغى على أصوات الرصاص والدانات لنجبر العالم على ان يصغي لأصوات الحب والسلام ويتجه بأنظاره لنا.. نحن ابناء السودان والذي برغم ما حلّ به من دمار وخراب سيكون عنقاء هذا الزمان ويخرج من بين الرماد… وبأيادينا مجتمعة سيكون لنا ما نريد…
قد يراني البعض حالمة أو غير واقعية (فأنا لا أدعو لحمل سلاح أو نزعة ولا أنا أدعو لمفاوضات أو اتفاقيات تسوية.. بل أدعو لأن نحارب القبح بالجمال.. وأن تعلو قيم المحبة والسلام على الغبن والكراهية والانتقام)… ولكن لو نظرنا إلى عصور مختلفةسابقة من التاريخ لوجدنا أن أعمال أدبية كثيرة من كتب وشعر وموسيقى وغيره كان لها تأثيرات واضحة في المجتمعات بل ومنها ما غيّر مسار التاريخ وظل خالدًا إلى اليوم…
ليكون لنا في السودان، الذي نعشق..
مكان السجن مستشفى.. مكان المنفى كلية
مكان الأسرى وردية.. مكان الحسرة أغنية
مكان الطلقة عصفورة تحلّق حول نافورة.. وتمازح شُفّع الروضة
Leave a Reply