من النكبة إلى النهوض: قراءة في استراتيجيات البعث لمواجهة التحديات القومية

بقلم: طارق أبو عكرمة

في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، أصدرت القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي بيانًا يحمل من العمق السياسي والفكري ما يستدعي التوقف والتأمل. لم يكن البيان مجرد تسجيل لموقف عابر أو تأكيد على قضية عادلة، بل جاء كصرخة وجودية وفكرية في وجه التفتت القومي، وكمحاولة لاستنهاض الوعي الجمعي العربي من سباته الممتد منذ النكبة الأولى، بل ومنذ تشظي المشروع النهضوي العربي في منتصف القرن العشرين.

إن عنوان “من النكبة إلى النهوض” لا يُقصد به فقط تجاوز الهزيمة التاريخية التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 1948، بل يتعداها إلى اقتراح مشروع نهضوي بديل، يعيد تعريف الأمة العربية ككيان سياسي وثقافي وحضاري واحد، ويعيد طرح الأسئلة الوجودية حول ماهية الأمة، ووظيفة الدولة الوطنية، وأدوات التحرر.

لقد تميز بيان القيادة القومية لحزب البعث بأنه لم يكتفِ بوصف المأساة الفلسطينية بوصفها كارثة وقعت في الماضي، بل صاغ مفهومًا جديدًا لما يمكن أن نطلق عليه “النكبة المستمرة”، عبر الإشارة إلى ما أسماه “النكبة الثانية” التي تجلّت في احتلال العراق عام 2003، وما أعقبها من انكشاف للأمن القومي العربي، وفتحٍ للأبواب أمام التدخلات الإقليمية والدولية.

وفي هذا السياق، يُقدّم البعث تشخيصًا مركبًا للتدهور العربي، وذلك من خلال أن القضية لم تعد فقط في اغتصاب الأرض، بل في اغتصاب الإرادة، وفي غياب المشروع، وفي ضياع الهوية، وفي تفكك الدولة الوطنية وتحولها إلى أدوات وظيفية بيد الخارج. وإن استراتيجية البعث، كما تتجلى في البيان، تقوم على أربع دعائم فكرية واستراتيجية، تُشكل في جوهرها مشروعًا نهضويًا ذا أبعاد فلسفية وسياسية، وكما يلي:

أولًا: نهج المقاومة:

ليس المقصود بالمقاومة فقط العمل المسلح ضد الاحتلال، بل تشمل أيضًا المقاومة الثقافية، والفكرية، والاجتماعية ضد التبعية، والاستلاب، والهيمنة. فالمقاومة هنا فعل وجودي، تعبير عن إرادة الحياة والكرامة، ومشروع لإعادة إنتاج الذات العربية في وجه الآخر الإمبريالي والصهيوني.

ثانيًا: رفض التدخلات الخارجية:

البيان يرفض الثنائية الزائفة بين الاستعمار القديم والجديد، ويُعيد الاعتبار لمبدأ السيادة بوصفه حجر الزاوية في النهوض. إن الوطن العربي، كما يراه البعث، لا يمكن أن يتحرر ما لم يتحرر من التبعية للولايات المتحدة، ومن الهيمنة الإيرانية، ومن الوصاية التركية، ومن أدوات التقسيم الطائفي والمذهبي التي تُغذيها هذه القوى مجتمعة.

ثالثًا: المشروع الديمقراطي:

يُعيد البيان قراءة الديمقراطية في السياق العربي، ليس بوصفها وصفة غربية جاهزة، بل كمطلب أصيل للتعبير عن الإرادة الشعبية وبناء دولة العدالة والمواطنة. فالديمقراطية هنا ليست نقيض القومية، بل هي شرط من شروطها، وضمانة لتجددها واستمراريتها.

رابعًا: العمل الوحدوي:

لا يرى البعث في الوحدة العربية حلمًا طوباويًا، بل ضرورة استراتيجية وتاريخية. إن الانقسام، كما يوضح البيان، هو أصل الداء، والوحدة هي شرط القوة والاستقلال والنمو. فالأمة التي تمزقت جغرافيًا ونفسيًا وثقافيًا، لا يمكنها أن تستعيد كينونتها إلا من خلال مشروع وحدوي عقلاني وواقعي ومتماسك.

إن فلسفة البعث، كما تتجلى في هذا البيان، لا تُختزل في شعارات سياسية، بل تمتد إلى نظرة كلية للإنسان والمجتمع والتاريخ. فالفكر القومي، بحسب هذه الرؤية، ليس مجرد تعبير عن انتماء إثني أو لغوي، بل هو مشروع تحرري شامل، يربط بين الحرية الفردية والسيادة الوطنية، وبين العدالة الاجتماعية والوحدة القومية، وبين التاريخ والمستقبل.

لقد أدرك البيان، بوعي فلسفي حاد، أن النكبة لم تكن فقط احتلالًا للأرض، بل أيضًا نكبة في الوعي، ونكبة في الإرادة، ونكبة في المشروع. ومن هنا فإن النهوض لا يبدأ باسترداد الأرض فقط، بل باسترداد المعنى، واستعادة القدرة على الحلم، وإعادة بناء الذات العربية القادرة على المبادرة والتأثير.

فإذا كانت النكبة لحظة فقدان كبرى، فإن النهوض هو لحظة وعي أعظم، لحظة تجاوز للشتات والتبعية، وبناء على أسس جديدة لنهضة عربية شاملة، يكون فيها الإنسان العربي فاعلًا لا مفعولًا به، صانعًا للتاريخ لا مجرد ضحية له.

إن بيان القيادة القومية يُمثّل نداءً فلسفيًا-سياسيًا مفتوحًا إلى كل الحركات والقوى والأنظمة والتيارات في الوطن العربي، لكي تتجاوز اللحظة الراهنة بما فيها من انكسارات، وتُعيد النظر في البُنى السياسية والثقافية التي أفضت إلى هذا الوضع المأساوي، وتؤسس لنهوض عربي جديد يكون فيه الوعي القومي قاعدة الانطلاق، والمقاومة أسلوب الحياة، والديمقراطية أداة البناء، والوحدة أفق التحرر.

إنها دعوة لإعادة تأسيس الذات العربية في وجه النكبة الدائمة، وتحويل وجع النكسة إلى طاقة للنهوض، واستبدال الجغرافيا الممزقة بجغرافيا الأمل، والتاريخ المنكسر بتاريخ جديد يُكتب بإرادة الشعوب الحرة.

وهكذا، فإن السؤال الذي يطرحه البيان لا يتوقف عند: “ما الذي حصل؟” بل يتجاوزه إلى: “ما الذي يمكن أن نفعل؟” في محاولة لاستبدال الحنين بالفعل، واليأس بالرجاء، والتشتت بالمشروع.

من النكبة إلى النهوض، هو ليس مجرد عنوان، بل مسار فلسفي نضالي، يضع أمامنا خيارًا حاسمًا: إما أن نستمر في الدوران في حلقات الفقد والانكسار، أو أن نُعيد الإمساك بخيوط النهوض، من خلال مشروع تحرري ديمقراطي وحدوي شامل، يُعيد للأمة العربية كرامتها، ويضعها في موقع الفاعل الحضاري، لا المتلقي المستَلب.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.